كانت الأيام والأسابيع القليلة الماضية "بروفة جنرال" بلغة أهل المسرح لعرض "الدولة الدينية"، فقد احتل الممثلون خشبة المسرح وكانت رسالتهم واضحة، ولم تأت ردود الفعل من جمهور الدرجة الثالثة "الترسو" وحده إنما تشارك معهم جمهور الدرجة الأولي والبنوار "النخبة"، فجأة اختفي الكلام عن اشتعال الأسعار، وانهيار المرافق، وخنقة المرور، وأزمة الكتب الخارجية، والبطالة ومراكب الموت في موجات الهجرة غير الشرعية، وأصبحنا كلنا "متدينين"، وخرجت صيحات الجهاد تقابلها صيحات الاستشهاد، الله عليك يامصر، كم بك من المضحكات المبكيات. وفي كل هذا لم نسمع عن تحرك ايجابي لأحزاب صدعتنا بشعار الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، ولم تبادر إلي الدعوة لمؤتمر للقوي الوطنية لرأب الصدع وانقاذ وطن يتعرض للاحتراق، ولم يصدر عن ايهم مجرد بيان يندد بموجات التصعيد هذه، وهذا أضعف الإيمان السياسي بوطن يجتاز محنة سعي الارتداد لدولة الطوائف، وحتي الحزب الوحيد الذي هاله بعض من هذا أحال الأمر للجنته الدينية لتخرج علينا ببيان باهت ينحاز لفريق ضد آخر، وكأنه انتقل من مقر حزبه الي إحدي الزوايا التي لا تخضع لرقابة وزارة الأوقاف. صمتت الأحزاب التي أقامت الدنيا ولم تقعدها عن ضمانات نزاهة الانتخابات وحمدنا لها هذا، فكان صمتها مريباً فيما هو أفدح وهو تعرض أمن الوطن وسلامة ووحدة شعبه لزلزال عتي، وتركوا الملعب لبعض من رموز دينية يطلون علينا في لغة لا تخفي المكابرة والتلاعب بالألفاظ، وتيارات تنفخ في النار لتستعر وبعض من رموز نخبوية مدنية اسهمت في الحريق ومازالت تري انها قالت الحق وتلوي عنق تصريحاتها لتبررها في صلف ومخاتلة بعقل بارد وجلد سميك. وكان العلمانيون علي رأس قوة مكافحة الحرائق يلهثون بين صفحات الصحف وشاشات الفضائيات يطلقون صفارات الإنذار وينبهون الأذهان للخطر القائم وتداعياته القادمة، يفندون تراهات هذا الرمز أو ذاك، يحذرون من هوجة شباب الانترنت المنفعلين ابدا، والذين يتحركون تحت تأثير معلومات مبتسرة ومغلوطة وربما مسممة عن عمد، ويكشفون التواء الرموز النخبوية التي انقلبت علي تاريخها لتتبني عكس ما كانت تدعو اليه في مربع الإخاء الديني والعيش الواحد أو حتي العيش المشترك، وتحاول أن توقف التصاعد المحكم التدبير من كافة الأطراف، ورغم أن امكاناتها لا تقاس بترسانة اعلام اللاعبين بمقدرات الوطن إلا انهم لم يستسلموا للمفارقة والمقارنة، علي يقينية أن عقلاء الوطن هنا وهناك هم الأكثرية وصمام امان هذا الوطن، الذي اجتاز ما هو اصعب وأخطر بفعل وحدة التراب والنيل والأصل العرقي الواحد. لكن الأمر والحال هذه يتطلب أمرين، أكررهما بلا ملل أو كلل، أولهما أن يبادر معالي المستشار النائب العام بفتح ملف الاحتقان الطائفي، المتجاوز وربما المولد للفتنة الطائفية وما تحمله من أعمال إجرامية، بما فيها تلك التي تمت معالجتها بما سمي بجلسات الصلح العرفية المهدرة لسيادة القانون، وتقديم الفاعلين فيها تحريضاً أو تأليباً أو تنفيذاً، للعدالة، وبالتوازي يتم تحقيق سياسي رفيع المستوي لكل هذا. وثانيهما نلتمسه من فخامة الرئيس بما له من صلاحيات دستورية أن يصدر قرارًا بقانون يجرم اية افعال أو أقوال مكتوبة أو مذاعة عبر البث المسموع والمرئي تتعرض للأديان بالتشكيك أو التجريح مهما كانت المبررات أو الخلفيات أو الأهداف، باعتبار أن أمن الوطن وسلامه مقدم علي صراعات الأديان أو قل توظيف مساحة الاختلاف الطبيعي بينها في تحقيق مآرب ذاتية ضيقة أو فرض سيطرة زمنية لم تكن يوما ضمن أهداف الدين في جوهره أو مبناه. فالبديل عن الدولة المدنية مخيف وكارثي، ولابد من مواجهته بكل ما نملك من قوة وإصرار، فمصر وطن يستحق منا أن نحميه ونتكاتف لأجل أمنه وسلامه ومستقبله.