بدأ عبد الوهاب الأسواني رحلته الأدبية والإبداعية الطويلة في حقبة الستينيات من القرن الماضي بروايته سلمي الأسوانية والتي حازت العديد من الجوائز مرورا ب أخبار الدراويش, اللسان المر, النمل الأبيض ووصولا إلي أحدث رواياته كرم العنب وهي الرواية السادسة له. لو قرأنا أول رواية لعبد الوهاب الأسواني وآخر رواية له لاستطعنا أن نرصد تطورات المجتمع المصري خلال نصف قرن من الزمان من خلال تناوله لقضاياه بصدق وموضوعية متخذا من قريته مسرحا للأحداث. حصل الأسواني علي11 جائزة مصرية وعربية وهنا حوار معه. بداية قلت له أود لو أعطيتنا صورة مصغرة عن مراحل النشأة والتكوين كيف كانت وما هي الصعوبات التي قابلتها خلالها ؟ عبد الوهاب الأسواني: هذا سؤال كبير سأحاول الإجابة عليه بصورة مركزة.. فقد وجدت نفسي بين بيئتين متناقضتين: بيئة الإسكندرية بمنطقة كان يسكن بها الخواجات ليس فيها مصريون خالص, وأخري أسوانية في قرية لها تقاليدها الخاصة المدهشة بالنسبة لسكان القاهرةوالإسكندرية, أبي كان عنده محل تجاري صغير يأخذ من ثلاثة إلي أربعة شهور في الإسكندرية وبقية السنة يقضيها في القرية.. ويترك المحل للشيخ إبراهيم وكان رجلا أزهريا لم يكمل تعليمه وكان أمينا جدا, المنطقة كانت تعتمد علي المصيف وكان عنده شوية ارض ولم يكن يزرعها.. كما أنه لم يكن يعمل أي شيء في قريتنا كأنه' بيه أو باشا' وكان يعرف عن ظهر قلب تاريخ كل أسرة في القرية, وكأنه مؤرخ أو نسابة, رغم أنه لم يكن يكتب سوي اسمه فقط.. أي لم يتعلم مثل معظم المصريين في ذلك الزمن.. ومن هنا جاءت محبتي للتاريخ! وأضاف: وجدت نفسي معزولا في هذه المنطقة والسبب في هذا أنني عندما كان عمري تسع سنوات, حاولت اللعب مع أولاد الخواجات ففوجئت بهم يحملون كرتهم ويتركونني وحدي, وكانوا هم أصحاب الأملاك والمحال التجارية والسيارات وبيوت المال في منطقة رمل الإسكندرية, التي كانت راقية جدا حتي إن الدكتور جمال حمدان قال عنها في كتابه شخصية مصر: كأنها قطعة من أوروبا عبرت البحر الأبيض وألصقت بشاطئنا, ثم تعرفت بعد ذلك إلي الأحياء الشعبية في الإسكندرية ففزعت حين رأيت الفارق الكبير بينهما, وعندما بلغت سن18 عاما كونت ومجموعة من الشباب ندوة السبت الأدبية, وكنت أسافر مع والدي كل عام إلي أسوان مدة سبعة أشهر وخلال هذه الفترة كنت أخالط كل فرد في القرية وأدخل كل البيوت بها, فعندما بدأت الكتابة وجدتني أكتب عن أسوان أفضل مما أكتب عن الإسكندرية ولا يعني هذا أنني لم أستفد من تجربة الإسكندرية فيوسف الشاروني في دراسته عن أول رواية لي والتي كان بطلها يشبهني كثيرا قال هذا البطل سكندري العقل أسواني العاطفة. العزلة المفروضة * سألته: طبعا هذه العزلة ساعدت في جعل القراءة تصبح مهمة لك ؟ ** قال: انعزلت لا سبيل ولا تسلية عندي غير القراءة.. وكان الشيخ إبراهيم هذا قارئا نهما للكتب وخصوصا الشعر والتاريخ وكان يقرأ مجلة روز اليوسف والاثنين وكتاب الهلال وقد شغفت بالتاريخ والشعر.. مع الأيام00 وكانت هناك مجلة للأطفال اسمها البلبل وكان بائع الصحف يحضر من3 إلي4 نسخ من الأهرام والأخبار وبقية الصحف أجنبية. ولم تكن هناك تسلية غير القراءة والراديو الضخم كان لدي, وياريت كان أتأخر ظهور هذه الأجهزة جيلين ولا ثلاثة كنا تعودنا علي القراءة كما هو الحال لدي الأوروبيين وبعدها عملنا ندوة السبت لان الإجازة كانت يوم الأحد.. وكان السؤال الأساسي الذي يشغلنا هو إزاي الإنجليز يطلعوا من بلدنا وخصوصا أن هذه المنطقة في الحرب العالمية الثانية, كان للإنجليز فيها معسكران معسكر في منطقة كيلوباترا وآخر في الإبراهيمية. وكنا نسكن في منطقة سبورتنج.. وقد انضم للندوة منهم واحد يوناني اسمه نيكولا وأخر يوغسلافي من أم مصرية.. كانا يكتبان القصة القصيرة بالعربية الفصحي ويتحدثان معنا بالعامية المكسرة مثل' أنا رحتوا أنا جيتوا' و في يوم من الأيام احدي المجلات الأسبوعية عملت مسابقة أدبية اشتركنا فيها كلنا, أنا اشتركت فيها بقصتين هما اللي فازوا فأحسست بنفسي إحساسا قويا جدا أبي كان ضد هذا ده كلام فاضي * سألته لماذا ؟ هو يعني والده_ للأسف الشديد كان اختارني من بين كل إخوتي لكي أصبح مثله تاجرا.. لما فزت بالجائزة تسلمت مبلغا من المال كان كبيرا بمقاييس تلك الأيام00 لما شاف والدي الكلام ده بطل يضايقني.. ولكنه للأسف الشديد تعمد ألا أكمل تعليمي000 فمثلا في المدرسة الابتدائية وكانت أفضل حالا من الثانوية الآن كان الأولاد بيتخانقوا علشان يقعدوا جنبي أمينة هي أمي * وماذا تتذكر عن الأم ؟ قال شخصية والدتي تكاد تكون السيدة أمينة زوجة السيد أحمد عبد الجواد, شخصية أمينة بالضبط هي أمي.. تماما.. ** مرت الأيام والكلام للأديب الكبير عبد الوهاب الأسواني وبدأ الأديب الموهوب محمد حافظ رجب يعمل ندوة في قهوة التجارية وكان لها نفس شهرة قهوة الفيشاوي بالقاهرة, وكان يحضرها الدكتور علي نور أستاذ اللغة اليونانية و الدكتور حسن ظاظا وكان فيها عدد من المثقفين المهمين, كنا نتحدث في كل حاجة إلا في السياسة والدين خوفا من المخابرات, هذا لا يعني أنني ضد ناصر وإنجازاته العظيمة.. وأضاف أعتقد أن الأمم تتقدم بأبنائها الموهوبين ولو تأملت العالم ستعرف إننا عايشين فيه من صنع4 آلاف شخص وبقية البشر عالة عليهم. فيما بعد قرأت لكبار الكتاب أن القضية الأولي والأساسية في الأدب والتاريخ هي الصراع بين الشرق والغرب ثم تأتي بعد ذلك كل الأمور. لقاء مع يحيي حقي وفي عام68 تقدمت بطلب لنيل التفرغ من وزارة الثقافة, ولكن بدا لي أن المسئولين لم يكونوا راضيين أن آخذها وأخذت تزكية من ثلاثة الدكتور رمزي لوقا واحمد باكثير ويوسف الشاروني.. قابلت يحيي حقي لأول مرة في مجلة المجلة الساعة11 صباحا والي جواره زوجته ونائبه الدكتور شكري عباد, قلت له أنا قدمت للتفرغ, قلت له أنا صاحب رواية سلمي الأسوانية فقال لي إن يوسف الشاروني امتدح هذه الرواية لدي يوم الخميس الماضي, ومضيت سعيدا, بعدها بعشرة أيام ورد لي خطاب من يحيي حقي: هنأني بالحصول علي التفرغ. أتذكر ان من كان ينشر له يحيي حقي في مجلة المجلة كان يعترف به في الساحة الثقافية0 * قلت له هل يعد اللجوء إلي التاريخ هروبا من الحاضر؟ ** ليس التاريخ مجالا للهروب من مواجهة الحاضر, لم أقصده لذاته, ولم أستوحه في كتاباتي دائما إلا في كرم العنب, حينما تحدثت عن ثورة عرابي والعائلات التي أضيرت من دعمها للثورة, وعبرت عن ذلك في صفحات محدودة. الغرض من لجوئي الإشارة إلي الحاضر, لا أنفي استفادتي من التاريخ في طريقة رسم الشخصيات في الرواية الاجتماعية والسياسية, وهو في رأيي صراع بين الشخصيات والرواية, كذلك هنالك صلة بينه وبين الرواية. * يحتل المكان أهمية كبري في أعمالك لماذا ؟ ** المكان مؤثر قوي في صياغة سلوكيات الإنسان وفي أفكاره ومعتقداته, ولو راقب أحدنا نفسه لوجد أن الأفكار التي تدور في ذهنه وهو جالس في حديقة مثلا تناقض تماما الأفكار التي تدور في ذهنه وهو يقطع الصحراء تحت سياط الشمس. * وشخصية المثقف لديك مهزومة دائما, هل يعني ذلك هزيمة المشروع الثقافي التنويري؟ ** لا يبشر الأديب بهزائم مهما بلغت درجة تشاؤمه, لكن في العمل الروائي أصور غلبة التقاليد, بحيث يتحول أصحابها أنفسهم إلي أسري لهذه التقاليد, كما حدث في رواية سلمي الأسوانية مثلا, جاءت هزيمة البطل من أنه كان يحارب فوق أرض ليست أرضه, فهو يحمل شخصيتين إحداهما مع أصدقائه في الإسكندرية وهي الشخصية العقلانية التي لا توافق علي شيء ما لم تقتنع به, يقرأ كتب الأدب تصارع الأفكار السياسية في بلده وعلي مستوي العالم, يخالط الكثير من الأجناس بحكم وجوده في هذه المدينة الكبيرة, وشخصية أخري تخضع خضوعا كاملا لتقاليد المنطقة التي تنتمي إليها, ترد الرواية أساسا علي مقولة الصراع بين الشرق والغرب. * وبرغم فوز روايتك سلمي الأسوانية بجائزة نادي القصة عام1966 لم يهتم بها النقاد.. برأيك لماذا؟ ** لأنني وقتها كنت أعيش في الإسكندرية والنقاد معظمهم في القاهرة ومن مشكلاتنا في مصر أن كل شيء مركز في القاهرة, بالرغم من أن الإسكندرية مدينة كبيرة وعالمية, لا توجد بها جريدة أو مجلة أو دار نشر لها اسمها, بعكس الوطن العربي حيث تجد في سوريا أن حلب ودمشق وحمص واللاذقية تتنافس في الأمور الثقافية, وفي لبنان طرابلس تنافس بيروت, وفي السعودية جدة تنافس الرياض والدمام أيضا, أما سلمي الأسوانية فالعديد من المبدعين كتبوا عنها كفاروق منيب, كمال النجمي, ماجد يوسف, والناقد حلمي القاعود, وأفضل دراسة عنها هي التي كتبها يوسف الشاروني لأنه اهتم بالبناء وليس بالمضمون فقط. حس السخرية يشكل عاملا أساسيا في نسيج كتاباتك. أليس كذلك؟ أسخر حتي لا أنفجر من الداخل بسبب ما يحدث في المجتمع, ومن وضع المثقفين الآن, وكلما يتقدم العمر بالإنسان يزداد لديه حس السخرية.