أقبلت علي مشاهدة المسلسل التليفزيوني' شيخ العرب همام' مدفوعا بما ترسب في ذهني علي مدي السنوات عنه. فقد قبع في خيالي شخصية أسطورية يحوطها الغموض, ومنذ ان قرأت عنه لأول مرة في تاريخ الجبرتي عجائب الآثار, لم تبارح صورته التي رسمها المؤرخ الكبير بقلمه مخيلتي. يقول عنه الجبرتي' مات الجناب الأجل والكهف الأضل الجليل المعظم و الملاذ المفخم الأصيل الملكي ملجأ الفقراء والأمراء ومحط الفضلاء والكبراء شيخ العرب الأمير شرف الدولة همام بن يوسف بن أحمد بن محمد بن همام بن صبيح بين سيبيه الهواري عظيم بلاد الصعيد, ومن كان خيره وبره يعم القريب والبعيد'. والصورة التي يرسمها الجبرتي للشيخ همام هي صورة الإقطاعي الفاحش الثراء الذي كان يمثل كل ما في الفترة من تقاليد وصراعات بين طبقات المجتمع المختلفة بدء من طبقة المماليك وانتهاء بأهل البلاد من الفلاحين مرورا بالطبقات البينية مثل القبائل العربية التي كان من بينها هوارة ورأسها شيخ العرب همام. لم أقبل علي العمل الدرامي للحصول علي معلومة وإنما للاستمتاع بما يدور في مخيلة مبدعي العمل الدرامي عن الفترة التاريخية وأبطالها. فالكتابة الدرامية فن وليست بحثا, وللكاتب الدرامي كامل الحرية في الانحياز لرأي دون أخر بل له كامل الفرصة أن يقلب التاريخ رأسا علي عقب, فهو يقدم في النهاية رأيه وربما إحساسه بحوادث التاريخ, ولا يقدم بحثا علميا في حقائقه, وهذا حق المبدع, بل إن حق المبدع في الخطأ جائز, فلا اظن أني شاهدت عملا دراميا واحدا يتناول فترات التاريخ التي أعرفها حق المعرفة إلا وشابه شئ من الخطأ في الديكور أو الملابس, وهو عندي مما يجرح العين فلا أستطيع الاستمرار في المتابعة, إلا أنه لا ينبغي أن يمنع المبدع الدرامي من تناول الأعمال التاريخية كما يراها. والحق أن متعة المشاهدة كانت حاضرة بدءا مما أنجزه الكاتب عبد الرحيم كمال وانتهاء بما أنجزه المخرج حسني صالح, وبالقطع بوجود هذه النخبة الرائعة من محترفي التمثيل المقنع الذي يصل إلي العالمية في الأداء. ممثلين وممثلات مخضرمين وجدد بدوا وكأنهم في مباراة في مهارة الأداء والإقناع. غير أنني توقفت كثيرا عند شخصية الشيخ سلام التي جسدها بشكل جميل وعبقري الفنان الجديد مدحت تيخة. فهي شخصية لا أصل لها في حقائق التاريخ, لكن المؤلف أبدعها لتكون رمزا للنقاء والضمير الخالص والحب المطلق للخالق وكل مخلوقاته دون أن يكون محملا بأي شكل من أشكال الصراع من أجل التملك أو السيادة. والشيخ سلام بهذه الصفات الروحية الخالصة يصنف في الحياة العملية بأنه العبيط الذي يعطي بركة للمكان, وهي شخصية حاضرة في تاريخ المجتمع المصري منذ أقدم العصور, بل إنك تكاد تري أحكامه وكلماته وتصرفاته في النصوص الهرمسية القديمة. كما يمكنك أن تقرأ عن الكثيرين من أمثاله في قصص القديسين والرهبان من المسيحيين المصريين. وبالطبع هناك الكثير من قصص الأولياء والصالحين في الثقافة الإسلامية المصرية. كان أثر الشيخ سلام علي المشاهدين كبيرا ثم كانت وفاته يوم زواجه لتضيف لشخصيته السمائية بعدا جديدا. فقد عكس الكاتب اهتمامه الشديد بالشيخ سلام في الإطار الذي قدم فيه لحظة الوفاة بينما عكس المخرج وعيه بموقع الشيخ سلام من الوجدان المصري في الصورة التي قدم بها رحيله, فباستخدامه الأبيض والأسود بديلا عن الألوان, وباستخدامه لصورة الشيخ سلام كأنه روح خالصة تسيطر علي نصف الشاشة أثناء جنازته, أعطانا الأثنان صورة لموقع نموذج الشيخ سلام من وجدانهما ومدي شوقهما إليه. تأثرت لوفاة الشيخ سلام, ولم أدرك سر تأثري إلا بعد أن شاهدت هذا التأثير الكبير الذي أحدثته وفاة الشيخ سلام علي جمهور المشاهدين, فجميع من رأيتهم ممن شاهدوا حلقة وفاة الشيخ سلام كانوا في حالة حزن حقيقية, بعضهم صرح بأنه بكي لوفاته, رجال ونساء, شيوخ وشباب, أقباط ومسلمون, الكل حزن حزنا حقيقيا لوفاة الشيخ سلام. وعندي أن سر هذا التأثر الشديد أننا أصبح لدي جميعنا حنين كبير لنموذج الشيخ سلام, نموذج الرجل الروحاني, رجل الله النقي المحب, فقد أرهقنا التزمت الديني, وتعبنا من الزجر والتهديد والوعيد التي احترفها رجال الدين والمتشددون الذين يعظون بالكره والعنف,وأيضا هؤلاء الذين يدارون خبثهم وسوء طويتهم بالبشاشة الزائفة ومعسول الكلام الكاذب. باختصار زهقنا من كل هؤلاء ولدينا حنين جارف للشيخ سلام.