رفع صوته الي أعلي ما يستطيع مناديا علي كل أصناف الخضار التي تملأ صحن و جوانب العربة الكارو التي يقف أمامها في ذلك الشارع الظليل الذي وصل اليه بعد عناء اليوم الشاق في السوق صباحا و قد اعتاد أن ينادي علي أصناف الخضار مرة واحدة و قد يكررها مرة واحدة أخري بدات الشمس تميل قليلا فحمد الله أن تخف حدتها عن رأسه, و راح يجفف حبات العرق التي كانت تتواصل لتشكل خطوطا متوازية علي جانبي وجهه, بينما كان يحاول تثبيت بعض قوالب الطوب أمام عجلات العربة ليتقي مفاجآت حركة الحمار المشدود الي ذراعيها الطويلتين تحت لجامه و بردعته. لم يضايقه حدة صوت نهيق الحمار بل اعتبره نوعا من الإعلان عن وجوده بالمكان يوفر عليه تكرار النداء علي الخضار, لعل أهل الحي يسارعون الي الهرولة اليه و شراء ما يلزمهم من أصناف الخضار الطازج الذي أحسن ابتياعه من السوق حتي يرضي أهل الحي الذين يمتازون بالذوق كما يقول في شراء احتياجاتهم و عدم الفصال في أسعاره. حقا ان أنكر الأصوات لصوت الحمير لكنه مع ذلك احتمله بل ووجد فيه فائدة كبيرة حيث جعله يطمئن الي احساس أهل الحي بوجوده في المكان المعتاد تحت الشجرة الوارفة الظل. لم يكن في مخيلته عندما تذكر هذه العبارة التي قرأها في كتاب المطالعة في السنة الرابعة الابتدائية أن ينتهي به المطاف علي رأس عربة و حمار وحمل خضار, بل كانت آماله في امتداد الحقول الخضراء التي تحيط قريته من كل جانب و كأنها سجادة ممدودة بلا انثناءات و لا ثقوب, لكنه النصيب وموت والده اللذان دفعا به الي جوار العربة و الحمار, و هما كل ما كان يملك والده من حطام الدنيا. اعتدل قليلا و راح ينادي بصوت جميل منغم علي جميع الأصناف في عربته مع المداعبة و التحسين في أوصافها, أحس بالجوع ليلا فتذكر أن يلقي بحمل من البرسيم أمام الحمار فهو لا ذنب له في الدوخة و المشاوير التي قطعها منذ قبيل فجر النهار و فعلا فقد تهلل الحمار و رفع صوته عاليا كأنها هي تحية أو مساعدة في جذب الزبائن الذين لم يظهر منهم أحد.. كأنهم قد هاجروا جميعا من الحي. تحسس أنواع الخضار علي عربته و أخذ' يلمع' فيها كوسيلة لاستدراج الرزق و الزبائن و تذكر أنه دفع فيها بالفعل كل ما كان في حافظة نقودة و لم يعد معه أي قرش زيادة, تشاغل باعادة ترتيب وضع الخضار علي عربته كحيلة اضافية للتحايل علي وقف الحال كما دعا بالفرج..' ولو زبون واحد يوحد الله' و لكن دعواه لم تلق استجابة, و هم أن يمد يده علي بعض الأصناف المصفوفة من الخضار علي عربته لكنه تراجع بسرعة و قد تذكر كم دفع ثمنا فيها و قال لنفسه لقد دفعت فيها كل مالي اليوم و لابد من الصبر لاسترداده و تلك أصول الصنعة عضه الجوع في أمعائه لكنه أصر علي العناد و قال لنفسه لن يكون موتا و خراب ديار, جلس متهالكا علي حجر الرصيف منهكا من الجوع و منهكا أكثر من حظه العجيب في هذا اليوم' و لا زبون واحد و لا بريزة واحدة', قرصه الجوع ببعض مخالبه الدقيقة في أمعائه, و لكنه أفاق و هو يجلس علي الرصيف حيث وجد نفسه دون أن يدري يجمع أوراق البرسيم الخضراء الطازجة اللذيذة يلوكها حتي تذهب ألم الجوع في أمعائه و لم يفق تماما الا عندما سمع الصوت المدوي للحمار يرتفع, و لم يدر أهي مشاكسة, أو مغاضبة, ام استئناس!!.