إذا كنت من محبي الموسيقي الشعبية مديحا كان أم موالا أو قصة أم سيرة, ونزلت الإسكندرية يوما, ومررت علي البحر, فمن المؤكد انك ستتذكر وتعيش وتتسلطن مع بدارة حتي ولو لم تسمعها, لأن البحر ونسيمه لابد يذكرك بها, ولو لم تقصد ذلك. إنها بدور مصطفي أحمد الشامي, التي اشتهرت باسم بدرية السيد, ثم اكتسبت لقبا جديدا وهو بدارة. وبحسب المؤرخ الفني والباحث وجيه ندا, فإن بدارة من مواليد الإسكندرية عام1930, في منطقة تتميز بأنها إحدي مناطق عمق التاريخ, مهما مرت السنوات, وهي منطقة بحري وكان ميلادها في أعماق اعماق بحري, فقد ولدت في منزل رقم11 بحارة البندقة بالدور الأرضي. كانت بدارة إذن إسكندرانية قلبا وقالبا وأصلا وفصلا, رغم أن والدها لم يكن سكندريا خالصا, فقد كان المعلم مصطفي أحمد الشامي من محافظة البحيرة, نزح إلي الإسكندرية مثل آلاف النازحين بحثا عن الرزق, وهناك تعرف علي سيدة من بحري, تعمل في صيد السمك وبيعه, وتزوجها ليعيش حياة سكندرية خالصة. وتعتبر بدارة من أكثر الفنانات اللاتي تميزن بالشمول في الفن الشعبي, فقد أحيت ليالي المديح والإنشاد في صباها, وعندما كبرت عملت في أكثر من لون, وأكثر من شكل, فكانت تحيي ليالي المديح في المرسي أبي العباس, وغيره من المشايخ والأضرحة, وتنافس في ذلك خضرة محمد خضر وفاطمة سرحان وغيرهما من المداحات والمداحين والمنشدين, وفي الوقت نفسه غنت اللون الشعبي العادي, كما تألقت في الاغنية الريفية حتي إن كثيرا من أغنياتها اشتهر دون أن يعرف الجمهور أنها لبدارة تحديدا. من ذلك حصوة في عينك يا اللي ما تصلي ع النبي, وصعيدي ولا بحيري, وموال طلعت فوق السطوح وهو بالمناسبة من الحان فتحي خالد خال المطربة أنغام, وصهر الملحن محمد علي سليمان وغيرها من الاغنيات التي ذاع صيتها ربما أكبرمن صيت صاحبتها. بدأت موهبة بدارة في الظهور منذ طفولتها, وهي بالطبع لم تنل حظها من التعليم, ليس فقط لانتمائها إلي ذلك الحي الشعبي العريق الفقير, ولكن لأن الفترة( ثلاثينيات القرن العشرين) لم تشهد نشاطا في التعليم بصفة عامة وفي تعليم البنات خاصة. لكن بدارة انطلقت في الموالد, وزادت شعبيتها بشكل ملحوظ قبل أن تخطو عامها العشرين وما لا يعرفه الكثيرون أن بدرية في تلك المرحلة كانت اقرب إلي المداحة منها إلي المطربة, فلم يكن ظهر لها إنتاج من الأغنيات الشعبية المعروفة وكان أداؤها مرتبطا بليالي الموالد والأضرحة حتي كانت خطوة من أهم خطوات حياتها, بعد ذلك بسنوات قليلة. في فترة صباها تعرفت بدارة علي الملحن الشعبي المعروف محمد الحماقي, ونحن لم نتأكد من وجود صلة.. قرابة بينه وبين المطرب الشاب محمد حماقي, وإن كان كثيرون يشيرون إلي وجود هذه الصلة.. كان ابن حتتها وكان من المضروبين بالموسيقي, وهكذا لعب الحماقي دورا بارزا في تعليم الفتاة الصغيرة أصول الموسيقي, وتدريبها علي الأداء الصوتي, وكان لابد لبدارة من الانتقال إلي خطوة أكبر, وهي الإذاعة. للأسف, لم تكن حملات الراحل العملاق زكريا الحجاوي لاستكشاف المواهب قد بدأت في هذا الوقت ونتصور أن تعاونا بين زكريا وبدارة كان لابد أن يثمر إنتاجا متفردا ولكن لأن مكتشف المواهب لم يكن قد ظهر, فإن طريق بدرية إلي الإذاعة لم يكن ممهدا, كانت هناك صعوبة في انتقالها إلي القاهرة وصعوبة في ايجاد مقر للإقامة, لم يكن الحسين قد عرف بعد إقامة سرادقات للسيدات علي نحو السرادق الذي اقيم للسيدة فاطمة سرحان في الخمسينيات, كما أن الآنسة بدور لم تكن مؤهلة لهذا الأمر, ولذلك ظل حلم الإذاعة مؤجلا لفترة طويلة, حتي تحقق عام1954. كانت هناك إذاعة محلية بالاسكندرية تعرف باسم اذاعة اللاسلكي, وعندما فتحت الإذاعة أبوابها كان بمثابة فتح انطلاقة لبدارة, فالقبول بها, لم يكن يعني مجرد القبول بإذاعة محلية, وإنما يعني عبورها البوابة الملكية للإذاعة في القاهرة, فاللجنة التي كانت تقبل الأصوات في إذاعة اللاسلكي كانت لجنة تتشكل من قادة الإذاعة بالقاهرة, وبالتالي فإن عبور الاختبار معناه قبول ضمني بالاذاعة الأم في المحروسة, فقد بقيت خطوة صغيرة وهي الاعلان عن طلب أصوات, وألا يقتصر هذا الطلب علي الأصوات الرجالي. ظلت بدارة تتردد علي الإذاعة بصفة مستمرة لشهور طويلة دون أن يحدث المراد, وفي النهاية طلبت الإذاعة أصواتا جديدة, ولحسن حظها فقد طلبت اصواتا من الجنسين, وجاءت اللجنة القاهرية مكونة من عمالقة الإذاعة في ذلك الوقت, محمد محمود شعبان. (بابا شارو وزوج أبلة فضيلة آدام الله عمرها), وحافظ عبد الوهاب( الذي اكتشف عبدالحليم شبانة ومنحه اسمه ليصبح عبدالحليم حافظ), وكذلك محمد شرابي وعبدالحميد حمدي. نجحت بدارة في الاختبار, والطريف أنها لم تنجح كفنانة شعبية كما اشتهرت فيما بعد, وإنما نجحت كمؤدية للأناشيد الريفية, حيث رأت اللجنة قدرتها علي الإنشاد أكثر من الطرب, وربما كان هذا هو السبب في ابتعادها عن غناء القصائد كما كانت تفعل فاطمة سرحان منافستها الأولي في ذلك الوقت. مع لمعان موهبة بدرية السيد استطاعت ان تجذب انتباه محمد الموجي, والذي كان معروفا في جيله بأدائه للأناشيد الريفية والدينية, فهو صاحب أوبريت رابعة العدوية بأناشيده الرائعة الرضا والنور و حانة الأقدار وأناشيد أنا من تراب للعندليب, وغيرها وهكذا بدأ الموسيقار محمد الموجي في تقديم الألحان لبدارة, غير أن التجربة لم يكتب لها النجاح والاستمرار, كذلك لم تستمر بدارة في تسجيل أناشيدها لشركة صوت القاهرة التي تعاقدت في فترة زمانية متقاربة مع خضرة محمد خضر وفاطمة سرحان وبدرية السيد وذلك في إطار اهتمام الدولة في تلك المرحلة بالفن الشعبي علي اختلاف الوانه.. للأسف لم تستمر تجارب بدرية في القاهرة نظرا لارتباطها الأبدي بالاسكندرية, ففيها عملها, ولياليها وحياتها, وفيها الأهم وهو اسرتها. كانت بدارة من المؤمنات بأن الفن ليس له أمان ولا يعول عليه, وأنه يبقي هواية, لذلك كانت الأولوية المطلقة لأسرتها, وهكذا تزوجت بدرية مبكرا, ولحسن حظها, وحظنا, فإنها ارتبطت بأحد اسطوات الموسيقي في الإسكندرية, مما جعل مهمة التوازن بين مطالب الأسرة ومطالب إحياء الليالي أسهل كان زوجها هو عازف الأكورديون الراحل السيد محمد حسين, وقد ظلت معه طوال حياتهما, وأنجبت منه أربعة أبناء كذلك لم تكن بدارة تؤمن بان الطرب وإحياء الليالي مصدر للدخل والإنفاق علي الأسرة, لم تكن لسطوة المال ان تتحكم في اختياراتها لذلك فإنها بمجرد أن كونت مبلغا صغيرا, وضعته في محل تجاري أنشاته بشارع العطارين يحمل اسم بدور لتأمين العيش, في البداية خصصت المحل لبيع المصوغات, لكنها حقق فشلا ذريعا, فخصصته لبيع الآلات الموسيقية. ومع تقدم العمر ببدارة, ظهرت منشدات جديدات في الاسكندرية, والملاحظ انها كانت متحمسة لهن ايما حماس, فقدمت لهن جميعا المساعدة, خاصة انتصار مجدي وزوجها أبو الوفا السوهاجي اللذين كونا ثنائيا شهيرا في الإسكندرية كانت بدارة سببا كبيرا في ظهوره, كما اسهمت في ظهور أسماء كثيرة منها وحيدة حلمي وبهية وسعاد منصور وسماح وفايزة دياب, وهي اسماء معروفة للسميعة جدا.