كما أن المديح له رجاله, فإن هناك نساء وهبن حياتهن لذكر الله ومديح رسوله, علي ما في ذلك من مشقة علي الرجل نفسه, فما بالك بالمرأة في مجتمع مازال يحافظ علي شرقيته, وإن كان يحاول التطور في إطار هذه الشرقية, ودون التخلي عن هويته. وإذا كانت خضرة محمد خضر وفاطمة سرحان مداحتين حظيتا بشهرة كبيرة, فإن هذا التألق يرجع بالأساس إلي جهود مكتشفهما الباحث العملاق زكريا الحجاوي, الذي تزوج من السيدة خضرة كما رأينا لحمايتها وتجنبا للقيل والقال, فماذا عن عالم المداحات بعيدا عن الحجاوي؟ يمكن القول بأن الوجه البحري قد عرف المداحات دون الصعيد, وقد ظهرت العديد من النساء اللاتي ارتبط اسمهن بمدح النبي, نختار اليوم منهن ثلاث سيدات خرجن جميعا من دلتا مصر وعشن في حب النبي. الأولي هي الحاجة هنيات شعبان التي يقول عنها محمد عبدالرحيم نجل عبدالرحيم دويدار المؤلف والملحن الشعبي الشهير, والذي كان له باع طويل في عالم المديح, سواء كمؤلف أو عازف, أو حتي منشد عمل بالإنشاد لفترات طويلة: كانت العملاقة الشامخة هنيات شعبان عليها رحمة الله فنانة قديرة, ولدت في مركز قلين بمحافظة كفر الشيخ, ومن أشهر قصصها قصة العابد كتبها ونظمها والدي الشيخ عبدالرحيم دويدار وكان هو أول من أنشدها, ولكنها لثقتها في والدي وارتباطها الفني به كان يكتب لها بعض القصص والأغاني ويقوم بتلحينها لها وتحفيظها. ويضيف دويدار: أذكر عندما كنت صغيرا أنها كانت تأتي لتقيم في منزلنا عدة أيام بصحبة زوجها الأستاذ مصطفي المكر وعازف الكمان الأستاذ مصطفي السعدني. ويشير إلي جانب لطيف من حياة الحاجة هنيات, فيقول إن أحد الحضور في منزل والده ممن كانوا يقومون بتحفيظ الحاجة وتدريبها علي الأغاني هو الأستاذ سامي جرجس, الذي لعب دورا كبيرا في مسيرة الست هنيات لكي تحفظ القصص وألحانها رحمة الله عليها. ومما يذكر لهنيات شعبان هو أداؤها لقصائد الفصحي بنفس السلاسة التي كانت تؤدي بها المديح العامي, ولم يكن ينافسها في ذلك سوي اثنتين السيدة أم كلثوم, والمداحة فاطمة سرحان. ونشرت مجلة الشبكة في عددها رقم849 بتاريخ مايو1972 حوارا للموسيقار الراحل فريد الاطرش, كان يتحدث فيه عن الحاجة التي أنجبتها قلين, فقال إنها صوت صاف رائع لا شائنة فيه ولا نشاز صاحبته مطربة حقيقية تساوي عشرين مطربة قديمة مضروبة في ثلاثين مطربة حديثة يذكرك بصوت أم كلثوم في الأربعينيات, ولو أحسن استغلال هذا الصوت لكانت هذه السيدة من أشهر المطربات في مصر. مازلنا في كفر الشيخ, بل إننا لم نغادر قلين, وقد أنجب هذا المركز الصغير موهبة أخري عاشت للمديح, وهي من السيدات القلائل اللائي صدر لهن شرائط كاسيت, تخصصت كلها في المديح, هي المنشدة إيمان مصباح. ولدت الشيخة إيمان في منتصف السبعينيات, بقرية نشرت وكانت أسرتها علي صلة وثيقة بأحد كبار المداحين في مصر هو الشيخ محمد عبدالهادي الذي كنا قد نشرنا سيرته الذاتية من قبل, ومنذ سن السادسة بدأت موهبة الشيخة إيمان في الظهور, أولا من حيث تعلقها بالشيخ عبدالهادي, وحفظها السريع لأناشيده, وترنمها بمدائحه. وكان موقف والد الشيخة إيمان نموذجيا وحضاريا, حيث لم يمانع ان تسلك ابنته هذا المسلك, علي العكس من ذلك فقد بدأ في توفير كل ما يلزمها لتعلم الموسيقي, فأحضر لها عازفين وموسيقيين في المنزل لتدريبها علي فن الإنشاد وهكذا بدأت إيمان في الموازنة بين دراستها العادية في المدارس التي لم تنقطع عنها, وبين دروس الموسيقي التي كانت صعبة قياسا لعمر الفتاة التي بالكاد تستقبل الحياة. وعندما تقدم العمر بالفتاة الصغيرة, اختارت أن تمارس فن الإنشاد من خلال فرق الثقافة الجماهيرية, وقصور الثقافة بوزارة الثقافة وأصبح لها باع حتي أصبحت نجمة الإنشاد الأولي في الفرق الشعبية, وبدأ الانتباه إلي موهبتة التي لمعت ليس فقط علي مستوي كفر الشيخ وكان للشيخ محمد عبدالهادي دور بارز في تعليم الشيخة إيمان والاهتمام بموهبتها, وظهورها, فقد لعب دور الظهر الحامي لها في فترات حياتها الحرجة, حتي اصبحت اسما كبيرا في عالم الإنشاد. وبدأ اسم مصباح في اللمعان, وهو ما أدي إلي تهافت شركات الإنتاج المهتمة بهذا اللون عليها, فظهرت لها عدة شرائط كاسيت, كلها أناشيد في المديح. ويذكر ان الشيخة إيمان التزمت في حياتها بنمط الطبقة الوسطي المصرية, فأتمت تعليمها علي أكمل وجه حيث حصلت علي بكالوريوس التجارة شعبة المحاسبة, وتزوجت وأنجبت وتعيش حاليا في قريتها بمحافظة كفر الشيخ. ومن خريجات كلية التجارة ايضا, نادية الهلالي, الشهيرة ب مداحة الرسول دخلت نادية باب الغناء الديني من خلال حفل اقامته مدرستها الابتدائية, في ذكري المولد النبوي الشريف غنت نشيد طلع البدر علينا, فتعرفت علي موهبتها, وعرفت أن الله قد وهبها شيئا عليها أن تصونه وهكذا كانت المصادفة سببا في دخولها عالم الغناء الديني, وتقول نادية عن نفسها: أذكر حينما كنت تلميذة في الصف الخامس الابتدائي كانت مدرستي تعد احتفالا بمناسبة المولد النبوي الشريف, وقد أعدت الأستاذة كل شيء عدا التلميذة التي سوف تغني نشيد طلع البدر علينا, وفي الوقت الذي رفضت فيه زميلاتي أداء النشيد كنت قد أبديت موافقتي, قابلت الأستاذة موافقتي بابتسامة عريضة وطلبت ان اقوم امامها ب( بروفة), ومع آخر مطلع من نشيد طلع البدر علينا كانت يدي معلمتي تعانق بعضها, ولسانها ينطق:( برافو نادية), وفي الحفل صفق لي كل الحضور وأصبحت مطربة المدرسة حتي المرحلة الثانوية. نادية لم تكمل بعد عامها الثلاثين, وتستعد لإصدار البومها الديني الرابع, وتقول إنها لم يكن من بين طموحاتها احتراف الغناء الديني, فبعد حصولها علي شهادة الثانوية التحقت بالجامعة وأنهيت دراستي في كلية التجارة, كما أشرنا, ولم يتسلل إلي قلبها ولو لحظة واحدة شعور بأنها سوف تحترف الغناء الديني. ولكن المصادفة التي لعبت دورا في تعرف نادية علي موهبتها هي التي قادتها إلي عالم احتراف الغناء, وتروي نادية تلك القصة فتقول: بعد الانتهاء من دراستي بعدة أعوام علمت بمحض المصادفة أن هناك شركة إنتاج جديدة وقال لي مالكها إنه يود أن يقدم فنا راقيا سألني عن اللون الذي أرغب في تقديمه, فأجبته بأني لن أغني إلا الأغاني الدينية, ومدائح الرسول, وهكذا ظهر البومي الأول الطفل وأركان الإسلام. لم تستمر نادية بعدها في الأغنيات التعليمية, واقتربت من أجواء المديح, فأصدرت البوم معجزات الرسول, وألبوم بكي الفجر وقد يتعجب القارئ من ذكر كلمة ألبوم في هذا السياق, إلا أن ما فعلته نادية الهلالي, هو ما جعل هذا ممكنا, فنادية تقوم بالإنشاد الديني, ولكن في ثوب2010, وتحاول أن تواكب شكل الأغنية الحديثة, مع الحفاظ علي روح المدائح ولذلك فهي تتعامل مع إنتاجها الفني بمنطق الألبوم, رغم تحذيرات العديدين لها بأن هذا اللون غير قادر علي المنافسة في هذه السوق, إلا أنها تحاول, وتقول إن المنتج حتي الآن لم يشك, وهذا معناه المكسب, ومن ثم النجاح, أما المقاييس الأخري فهي غير معنية بها.