الصعيدي الكبيرة..!خط الصعيد الأصلي والأساسي والحقيقي!! هي.. الصانعة والمربية والحرفية والمهنية.. هي.. العقل المدبر الحكيم والمجنون في آن واحد.. باشارة من اصبعها تهد الدنيا وتقلبها رأسا علي عقب وبنظرة حاسمة واثقة حادة متربصة تهز شنبات طويلة عريضة وتدفع دمها الحامي إلي أن يصل إلي درجة الغليان فلا يملك سوي أن يضع اصبعه علي الزناد ليريح قلبها فتنطلق زغرودتها التي حبستها سنوات وسنوات لتملأ الأجواء..!! هي من تقول جولت لع.. يعني لع.. فلا يملك الجميع سوي الاستسلام والخنوع.. هي.. المرأة الصعيدية منذ أن حطت قدماي أرض جنوب مصر وتحديدا محافظة قنا وبالتحديد نجوع وقري مدينة نجع حمادي حتي أحسست برائحة غريبة تغزو صدري.. قد تكون تلك المنبعثة من وشوش الرجال والنساء خاصة العجائز منهم.. فعندما تتأمل قاريء سطوري كل تجعيدة حفرت في وجوههم سرعان ماينتابك احساس بانك تقف أمام الزمن وجها لوجه. وكلما تغوص في أعماق أهل الصعيد وتتعمق في كلامهم واحاديثهم وحتي لهجتهم كلما تشعر بأنك لاتريد العودة إلي مدينتك في الوجه البحري.. وربما تدعو ربك سبحانه وتعالي الا يجعل الوقت يمضي سريعا..حتي لاتخرج من حالة الهدوء والتأمل والسكينة التي وضعتك فيها أرض الجنوب بأهلها السمر الشداد..!! ولا أعرف لماذا لم تكن الصورة التي تجسدها الأعمال الدرامية وخاصة التليفزيونية عن تلك البقعة من أرض مصر أمام عيني أو كما يقولون في الخلفية أو في الFeedBack بل كنت علي يقين بأنها قد لاتنقل الواقع برمته وبحقيقته وبأوجاعه وبهمومه وحتي بايجابياته.. وأن دائما ماتكون الحقائق منقوصة أو مبالغا فيها.. ولعل هذا ما أكده لي معظم أبناء الجنوب الذين جالستهم واستمعت اليهم.. أشياء وأمور كثيرة تدفعك دفعا للتأمل والرصد والوقوف أمامها طويلا بدءا بو شوش الناس التي تحمل حواديت وحكايا واساطير مرورا باللهجة وطريقة الكلام والتفكير والتعامل مع الأمور الحياتية اليومية وحتي موضوع الثأر الذي لم يشف منه أهالي الصعيد إلي هذه اللحظة.. ولكنها وحدها ملكتني وأسرتني وشدتني وجعلتني مشدوهة أقف أمام ملامحها وتجاعيد وجهها وطريقة تفكيرها وتدبيرها للأمور التي لاتنم أبدا سوي عن قوة وجبروت وصمود وشموخ وكرامة وكبرياء.. إنها المرأة الصعيدية وكما يلقبونها الكبيرة.. ولايشترط أن تكون كبيرة في العمر ولكن في المقام والرأي والحكي والاستشارة والقرار..!! تملك زمام الأمور بين يديها وفي عقلها وقلبها.. وهي من الذكاء بأن تجعل الرجل الزوج كان أو الأب أو الأخ أو ابن العم تجعله يشعر بأنه الكبير وصاحب القرار وملك البيت.. ولكنه في الحقيقة طفل يتعبد في محراب أمه... والأمر الواقع يقول أنها الكل في الكل...!! وهذا ما قد لا نراه مثلا في الأعمال الدرامية التليفزيونية التي تتعرض إلي عالم الصعيد, والتي غالبا ما تظهر المرأة في جنوب مصر مقهورة ومظلومة ومغلوبة علي أمرها, ويتم تزويجها دون إرادتها.. المرأة عالم مستقل بذاته, وفي الصعيد لا يحتاج التعرض لها موضوعا صحفيا واحدا, بل العديد من الملفات والدراسات وفي السينما والتليفزيون لا يحتاج الأمر إلي عمل أو أعمال تتناولها من علي السطح فقط... بل يجب التعمق فيها... ولعلي انتظر من الكاتب العبقري الجديد الذي نجح في إثبات وجوده بعد مشوار من التعب والشقا السيناريست والقاص الموهوب الشاب عبد الرحيم كمال... عملا منفردا عن المرأة الصعيدية في جنوب مصر الذي ينتمي إليه, وقد أري أنه الأقدر علي كتابته والتعرض له...!!!! تأمل معي قاريء سطوري مواقف عديدة للمرأة الصعيدية في الظاهر تبدو ضعفا ولكنها في الحقيقة عندما تتأملها يجب أن تراها وتقوم بتوصيفها علي أنها منتهي القوة, بل والجبروت.. في جنوب مصر يسيطر ويتحكم الرجل في أمور عديدة خاصة الميراث, فالمرأة لا ترث بعد وفاة أبيها أو زوجها اخوتها هم الذين يأخذون الميراث كاملا ويكتفون فقط بأن يعطوها بعضا من الهدايا في المناسبات كشهر رمضان والأعياد... وعندما يكبر أولادها يطالبونها بأن تأخذ حقها من اخوتها, وكثيرا ما حدث من حالات حاولت تغيير عادة الميراث الظالمة... الغريب والجدير بالتأمل هو أن المرأة نفسها هي التي تقف وتتصدي لأولادها, وهي التي قاومت تغيير عادة الميراث, وكانت كلماتها الشهيرة لأولادها تعبر عما بداخلها من قوة لا أبيع اخوتي من أجل المال...!! الست الصعيدية أيضا تعلم أن رجلها ضيق الصدر, ولا يتحمل الكلام الكثير, فتقوم بحركة عكسية عندما تريد أن تقنعه بشيء وهي الزن علي الودان إلي أن يرضي ويقول أريح عقلي...!! الست الصعيدية هي رجل البيت خاصة بعد أن يهجر زوجها البلدة والمنزل متجها إلي المدينة بحثا عن الرزق في العاصمة.. الست دي هي التي بترعي الأراض وتتولي كل النواحي الاقتصادية والاجتماعية.. هي عمود البيت الفقري.... اليس هذا منتهي القوة!! وآه... وآه...!! من أحزان الست الصعيدية... لم أر علي وجه الأرض حزنا يتحول إلي فن معجون بالشجن..!! إنه فن الحزن أمعة الشجن الذي يتملك من الست الصعيدية...!! أنها العدودة سيدي القاريء...!!! أعترف وأعلنها لك صراحة أنني طوال فترة وجودي علي أرض الجنوب, سيرفضن لأنهن لسن محض فرجة وللأحزان حرمتها.. أيضا لو سمح لنا ودخلنا, فلن تتفوه واحدة منهن بكلمة عديد واحدة... بل سيلتزمن الصمت.. إذن الحل هو الوقوف من بعيد لتأمل وسماع حالة الحزن ومحاولة الجلوس مع الندابة بعيدا عن الميتم...!! نجحت محاولتي في الجلوس مع ملكة العدودة وهي كما يطلقون عليها المعددة وهي المتخصصة التي تحفظ المواو يل من الجدات وجدات الجدات..!! ولديها أيضا القدرة علي الارتجال عندما جلست أمامها تسرب إلي احساس بالحزن وكأنني فقدت عزيزا وغاليا والحق التزمت الصمت... * سألتني... عاوزة تعرفي إيه يا بنيتي..؟ * عاوزة اسمعك يا حاجة عباسة... * يوه...!! يا أبوي... دي حاجات كتير أوي... * هي أنواع...؟! * أنواع كتير واحدة أطلقها لما بودع صغير السن وثانية للكبار وثالثة للست المسافرة... ورابعة للمخطوف وعاشرة للي ميت مقتول.. * أنت حافظاهم يا حاجة عباسة ولا ده من تأليفك... * عندي التنين... اللي حافظاه.. واللي بقوله من قلبي ساعتها.. وبيطلع موزون... * أنت اتعلمت.. * الحياة علمتني.. * طيب بتقولي الكلام ده ازاي.. اللي طالع من القلب مفيش اصدق ولا أحسن منه أنا مابعرفش أقرأ ولا أكتب.. لكن بحب أقول الشعر.. أنا اتعلمت ده من جدتي ده موروث شعبي عندنا. * سمعيني الله يخليك ياحاجة عباسة جايلك عروسة محنية الكفوف والكعب خدت معاها الحنة وسابت وجع وأنا أبحث عن هذا الحزن... أجول بقدمي في كل نجع وقرية لأنقب عن ميتم لأسمع هذا العديد.. لا أخفي عليك... وجدت وبكثرة... ولكن من الحماقة أن أدخل لأقدم التعازي وأجلس وسط هذا الكم من النساء المتشحات بالسواد وزميلي القلب دي بقولها للست الميتة في سن صغيرة. أما عدودةالست اللي تموت وتسيب ولادها صغار بقولها. غراب البين عالنخيل يبكي عاللي تفوت عيالها وتمشي غراب البين عالنخيل ينوح عاللي تفوت عيالها وتروح وكمان نقولها.. من يوم فراقك والشاي في دارنا بطلناه وشايك مع الحفار شيعناه. والشاب الصغير اقول عليه.. ياعود طري واتلوي ميل ومال علي الارض امبارح كان في وسطنا والليلة تحت الارض. * والأم لما تموت.. تقولي لها إيه؟ وأنا ماشية رجلي اليمين طاحت ياناس هاتوا لي حبيبتي راحت دخلت بيتها زعقت بالقوة مالقيتها برة ولا جوه خشيت بيتها زعقت بالعالي مالقيتها برة ولا جاري. * صمتت لبرهة ثم قالت خدي دي من الحاجة عباسة للي مات جوزها واترملت.. جلي جوزي لما يقعد جاري.. لما يلقيني ويسلم علي سلام يرضيني وبعد السلام يقعد يخاليني( تقصد الخلوة) يامحلاه لما يصادفني ويسلم عليا سلام يبسطني وبعد السلام يقعد يحدثني( يكلمني) ياصاحب الشاشتين خد لك شاش وإيه فايدة الشاشتين بيلا لباس طيب بينا يابنات علي القامة نهدوها ونجيب الرجال اللي هان عزوها لا انزل عليه القبر بحجولي( تقصد الخلخال) حق النبي بره عاوزها هاتوهولي. وفي عدودة اخري عن الزوج تقول: كنت فين ياوعد يامقدر دي خزانة وبابها مسدر يارجالة عدوا عمايمكم عمة كبيرة غايبة عنكم. تركت الحاجة عباسة التي صممت الا يلتقط لها زميلي المصور الفنان حسام دياب أي صورة لانها علي حد قولها تطير له رقاب وتبقي مسخرة ولادها.. ولكننا أقنعناها أن تكون صورتها وهي تضع طرحتها علي وجهها.. وقد كان.. غادرت الحاجة عباسة.. وتركت صعيد مصر مرغمة مجبرة.. فالوقت قد مضي مسرعا. ولكن ظلت تلك الكلمات التي تفوح منها رائحة الموت ولاتخلو من الموسيقي والشجن رغم ان موسيقاها تتسم بالسواد.. ظلت تطاردني وتحاصرني طوال رحلة العودة الي منزلي بقاهرة القلوب حيث الناس من هول الحياة.. موتي علي قيد الحياة.. كما قال عنها الراحل نجيب سرور. المصور يلتقط كادراته... كان امرا من خامس المستحيلات لأنهن بالقطع