في الخمسينيات قبل أن تسوء علاقات عبد الناصر بالولايات المتحدة تماما, كانت واشنطن تبذل الجهد لإغراء القيادة المصرية لتغيير بعض سياساتها أرسلت المخابرات الأمريكية لعبد الناصر عن طريق حسن التهامي مبلغ ستة ملايين دولار كنوع من عربون المحبة . لم تؤثر الدولارات في عبد الناصر, لكنه فكر في الكيفية التي يمكنه بها استعمال هذا المبلغ الكبير جدا بمعايير ذلك الزمان, فتفتق ذهن الزعيم الكبير عن استخدام هذه الأموال في بناء برج القاهرة. كانت الملايين الستة كافية لبناء البرج الذي كان في وقتها الأعلي في كل الشرق الأوسط, بينما كان من الممكن لناصر استخدام الهدية الأمريكية لتمويل مشروعات التنمية, فيبني مصنعا أو اثنين, أو يمد المياه النقية لبضع مئات من القري, أو يفتح جامعة جديدة. لم يختر عبد الناصر أيا من هذه المشاريع, لكنه قرر بناء البرج الأعلي في مصر والشرق الأوسط في قلب القاهرة. كان عبد الناصر يحتاج رموزا لعهده, فمنحه البرج واحدا من الرموز التي احتاجها. أظن لو أن نقاشا موضوعيا لطريقة استخدام هذه الأموال جري في ذلك الوقت لكانت فكرة بناء برج القاهرة تعرضت للهزيمة المنكرة لصالح هذا أو ذاك من مشروعات التنمية. لحسن الحظ لم يكن هناك كثير من النقاش الموضوعي مسموح به في مصر في ذلك الزمان, وإلا كنا حرمنا من برج القاهرة, فبعد خمسين عاما من بناء برج القاهرة تزيد قيمة هذا البناء الشاهق ذي التصميم المميز كثيرا علي قيمة أي مصنع أو مدرسة أو شبكة مياه كان من الممكن إقامتها باستخدام الأموال نفسها. لقد منح البرج لسماء القاهرة شكلا مميزا وهوية كانت تحتاج لها. كانت هناك القلعة ومسجد محمد علي شاهدين علي عصور سابقة, ولكن مصر الحديثة كانت بحاجة إلي صرح يدل عليها ويميزها, فكان البرج. الاعتبارات الجمالية والرمزية قد لا تشغل كثيرا العقلانيين من أنصار التنمية الرشيدة التي لا تنفق الأموال إلا بعد حساب العائد الذي تدره. أتخيل لو أن العقلانية التنموية كانت تحكم قرارات الفراعنة بناة الأهرامات أو معبد الأقصر, لما كان لدينا أي من هذه الصروح العظيمة التي تمنحنا شعورا بالفخر والتميز ليس له حدود. المصريون يحتاجون لصروح هائلة جديدة تشهد علي عصرهم الراهن, وأتمني لو لا نكون بحاجة لمزيد من الحكام المستبدين للشروع في مثل هذه المشروعات.