الإنسان الضعيف لا يغفر، المغفرة شيمة القوي "المهاتهما غاندي".. وعندما تفقد الداهية عمرو بن العاص جنود معاوية في خضم معركه صفين وجد أن الفتور دب بينهم وزهدوا في قتال جيش علي بن طالب، فتفق ذهنه بالحل السحري فأشار لمعاوية بان يخرج لهم قميص عثمان المضرج بالدماء علهم يستأنفون المنازعة، فحين وقعت أعين الجند على القميص ارتفعت ضجتهم بالبكاء والنحيب، وتحرك منهم الساكن، وثارت أحقادهم فاندفعوا كالعميان، يقاتلون بشراسة، فهوت قمصان جديده مضرجة بدماء أبرياء ? ذنب لهم سوي انهم قربان لأطماع الوثوب إلي السلطة. لطالما طالب معاوية عليآ بدم عثمان وهو في صفوف المعارضة فلما تمكن واستتب له الأمر ترك دم ابن عمه ولم يطالب به أحدا من قاتليه . فذكره أصحابه بدم عثمان ، وسألوه أن يأخذ بثأره فأبى . وطالبته ابنته بالقصاص، فقال لها بحكمه رجل دوله لم يدع العواطف الجياشة تجره الي دوامة الثأر المجنونة التي لاتبقي ولا تذر" ابنة أخي إن الناس أعطونا وأعطيناهم أمانا، وأظهرنا لهم حلما تحته غضب ، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد ومع كل أنسأن سيفه وهو يرى مكان أنصاره .فإن نكثنا بهم نكثوا بنا ولاندري علينا تكون أم لنا . ولأن تكوني بنت عم أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عرض المسلمين" . هذا سياسي محنك يدرك حساب الموائمات السياسية للقصاص وتأثيره علي الأمن والاستقرار، لذا خشي ان ينفذ القصاص لكي لا يثور الناس فيفلت منه زمام الحكم وتسقط الخلافة فقرر ان يقنع نفسه واهل الدم وعموم المسلمين بهذا العذر الذي لم يقبله من علي بن ابي طالب وحاربه من أجله مرتين !! للأسف كانت مزايدة القصاص مطلب حق يراد به سلطه باطله، ونقطه فاصله مشئومه في التاريخ الإسلامي، فتحت ابواب المصائب والشرور علي مصراعيها بداية من استباحة المسلم حرمه دم اخيه المسلم وزرع النبتة الأولي لشجرة زقوم التنطع والتكفير بظهور فرقة الخوارج والتي اثمرت رؤوس شياطين تعيث في الارض فسادا إلي الآن، بالإضافة لتشرذم المسلمين وتفرقهم الي فرق ومذاهب شيعه وسنه واخوان وسلفيين وجهاديين ..الخ ثم التحول الدراماتيكي من البيعة الديمقراطية والخلافة الراشدة إلي ديكتاتورية الملك وتوريث حكم العائلة. أينما تولي وجهك شطر أي مصيبه حلت بالعالم الإسلامي ستجد اصلها قميص عثمان الذي لم يقتص له أحد منذ 1400 سنة. يا تري كم نحتاج من الزمن لنستوعب الأمر ، فالكل يناور ويزايد ناعقآ كغراب الموت بشق الجيوب ولطم الخدود علي ملف القصاص والعدالة الانتقالية ويتاجر بقميص الشهداء في سوق النخاسة السياسية حيث هناك مواسم لاستحضار عذابات وآلام الأمهات الثكلي ونكأ جراح غائره لشباب يملؤهم نبل و براءة شعار يا نجيب حقهم يا نموت زيهم. والمؤسف ألا يستطيع اي سياسي مواجهة الناس بالحقيقة المؤلمة وهي استحالة القصاص في ظل الظروف المعقدة التي تعيشها مصر حاليآ فقد سقط للجميع شهداء من شباب الثورة والأقباط والألتراس واهالي بورسعيد والإخوان والسلفيين والجيش والشرطة، فأضحي الجميع اصحاب حق ودم فكيف الحل؟ لقد فشلت ادارة المجلس العسكري والإخوان والثوار ممثلين بعصام شرف ثم البرادعي في تحريك ملف العدالة الانتقالية إلا بصوره شكلية لامتصاص الفوارن الثوري لأن السلطة تغير طبائع وافكار الرجال وتضعهم امام الواقع المرير!!علينا أن لا نخدع الناس، ونتحلي بالشجاعة ونعلن بوضوح لا يحتمل اللبس أن هذا الملف لا يمكن حله بالطريقة الثورية لأنها تزيد اعداد الشهداء أكثر فاكثر وتهدد السلام المجتمعي وتعيق اي فرصه للتعايش وقيام دوله امنه ومستقرة لأنه ليست ثمة انتهاكات فرديه وإنما إرث كبير من انتهاكات شرائح اجتماعية عريضة سواء مؤسسيه او طبقيه أو جغرافية. ليس هناك مفر إلا أن نحذو حذو التجارب الإنسانية الناجحة في معالجة ملف العدالة الانتقالية والتي انحازت للحياة علي الموت وللعفو علي الانتقام والصفح الجميل علي الثأر المقيت وللمستقبل المشرق علي الماضي الكئيب ولنا اسوة حسنه في تجربة الحكيم مانديلا في جنوب افريقيا وذكاء الملك محمد السادس في المغرب فقد ارتكزت علي مبادئ المكاشفة ثم الاعتراف بالأخطاء ووضع اسس سليمه لتصحيحها وتجنبها مستقبلاً ثم عقد الصفقة الكبري للمصالحة عن طريق تعويض الضحايا معنويا وماديا وسياسيا إن لزم الأمر. أعتقد ان التأمل في الموروث المصري القديم يلهمنا ابداع تجربتنا المصرية الخاصة بنا في تجاوز هذه المحنه ،فعبقرية الصعيد في تسوية خصومة الدم مثال رائع لحل هكذا ازمة حيث يقدم القاتل كفنه في مشهد مهيب تعبيرا عن الإقرار بالذنب و الندم لأهل القتيل الذين يسمون علي جراحهم واحزانهم ويعلوا قيم التعايش والصفح الجميل علي ما سواها. لذا اقترح علي القاضي الرئيس عدلي منصور ان يدعو الي مبادرة جادة لتجميع كل أصحاب الدم من امهات الشهداء فقط منذ ثورة 25 يناير وحتي الآن من كل حدب وصوب دون تمييز في رحاب القصر الرئاسي وتقدم الدولة لهن اعتذار رسمي وتتعهد بالتعويض المادي والأدبي المرضي لهن، ويشترك في ذلك جميع المؤسسات من الأزهر والكنيسة ورجال الأعمال والمثقفين والفنانين والرياضيين ليكون اكبر عزاء في تاريخ مصر نجبر خواطرهن ونضمد جراحهن ونمسح دموعهن عندئذ بكل تأكيد سيسامحن ويمنحن مصر أم الدنيا فرصه لتسد باب الفتنة الكبري علي المتربصين من اعداء هذا الوطن بالداخل والخارج . هذه ليست فكره أفلاطونية بقدر ما هو اجتهاد يمكن الحذف والإضافة إليه حتي نطفئ بركانا خامدا من السهل إشعاله في أي لحظه ليلتهم الأخضر واليابس من حولنا، وإذا لم نستطع غلق هذا الملف بحكمة، سيظل الأمن القومي المصري علي المحك.