إن الحوار الذى حكاه صاحب «البداية والنهاية» والمتعلق بمحاولة ابن عباس إقناع على بن أبى طالب بإدارة صراعه مع معاوية بن أبى سفيان بأسلوب الخدعة، يعكس خلافاً بين عقليتين، أولاهما عقلية على بن أبى طالب، وهى عقلية ثورية تتحرك فى قراراتها بمنطق الخط المستقيم، وتنطلق نحو هدفها بعزم طالما اطمأنت أنها على الحق، وثانيتهما عقلية سياسية، وهى عقلية «ابن عباس» الذى اقترح إدارة الأمر بالحيلة، ومخادعة الخصم بالأمانى والوعود، لكن هيهات، لذلك أتحفظ على التعليق الذى ساقه «ابن كثير» على هذا الحوار، وأورد فيه أن علياً لم يسمع لابن عباس، لأنه أراد مطاوعة الثائرين (من الخوارج)، فليس علىّ بالرجل الذى يسيّره أحد كما تشهد على ذلك سيرته، فهو لم يسمع لابن عباس، ولم يسمع من قبل للعباس، لأنه ليس بالشخصية التى تنقاد لأحد، وكان أولى به أن يسمع لعشيرته الأقربين، لكنه لم يفعل، لأنه كان رجلاً يتحرك بمحض تفكيره ورؤيته. لقد كان على واعياً بأن وقوف كل من حزبى «مكة» و«الشام» ضده تحركه الرغبة فى الدفاع عن النظام السياسى الذى أفرزته تجربة عثمان بن عفان رضى الله عنه، رغم أنها انتهت إلى ما يشبه الثورة الشعبية التى أدت إلى مقتل الخليفة وهروب بطانته وأتباعه إلى خارج المدينة، وهو ما أرعب سادات وكبار الصحابة من أن يتحكم عوام المسلمين فى أمر تحديد شخص الحاكم بهذه الطريقة، وكان للمواقف الشخصية التى تبناها البعض ضده دور فى تغذية فكرة الوقوف فى مواجهته أكثر وأكثر. الكل كان له أسبابه فى مواجهة على بن أبى طالب، لكن يبقى أن آخر سبب لهذه المواجهة هو مسألة الثأر لدم عثمان بن عفان التى استند إليها كل من حزب «مكة» وحزب «الشام» فى جمع الأتباع، فقد كان هذا الأمر مجرد ذريعة للخروج على الخليفة، ولم يكن أى من هذه الأطراف جاداً فى الثأر لدم عثمان. فخلف قميص عثمان اختبأت مصالح ومطامح ومطامع ومحاولات لتصفية عداءات قديمة. والدليل على ذلك أنه بعد فراغ السيدة عائشة رضى الله عنها من موقعة الجمل قالت وهى خارجة من البصرة: «يا بنى لا يعتب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بينى وبين على فى القدم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه على معتبتى لمن الأخيار، فقال على: صدقت والله، ما كان بينى وبينها إلا ذاك، وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم فى الدنيا والآخرة». المسألة لم تكن تعدو -من وجهة نظر عائشة- أكثر من الخلاف ما بين المرأة وحميها، وقد كانت أم المؤمنين تدخر لعلى موقفه منها فى حادثة الإفك، حينما نصح النبى صلى الله عليه وسلم بتطليقها، ثم نزل بعد ذلك الوحى من السماء بقرآن يبرئ أم المؤمنين رضى الله عنها. المسألة إذن لم تكن الثأر لعثمان، بل كانت فى الثأر من على نفسه. وإذا انتقلنا إلى زعيم حزب «الشام»: معاوية بن أبى سفيان الذى كان يجمع الناس بالشام للتباكى حول «قميص عثمان»، فسنجد أنه بمجرد أن استقام له الأمر، واقتنص الخلافة بعد اغتيال على بن أبى طالب، وتنازل الحسن بن على له، فسنجد أنه نسى أمر عثمان وقتلة عثمان والثأر منهم، وغير ذلك من شعارات كان يرفعها بصورة مؤقتة، حتى يبرر مناهضته لعلى. ويحكى صاحب «البداية والنهاية» واقعة لافتة للغاية فى هذا السياق يذكر فيها أن معاوية قدم المدينة أول حجة حجها، بعد اجتماع الناس عليه، فلقيه رجال من قريش -يقال كان فيهم الحسن والحسين- فتوجه إلى دار عثمان بن عفان، فلما دنا إلى باب الدار صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها، فقال معاوية لمن معه: انصرفوا إلى منازلكم فإن لى حاجة فى هذه الدار، فانصرفوا، ودخل، فسكّن عائشة بنت عثمان وأمرها بالكف، وقال لها يا بنت أخى: «إن الناس أعطونا سلطاننا، فأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا، فإن أعطيناهم غير ما اشتروا منا، سعوا علينا بحقنا وغمطناهم بحقهم، ومع كل إنسان منهم شيعته، فان نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندرى أتكون لنا الدائرة أم علينا، وأن تكونى ابنة عثمان أمير المؤمنين أحب إلى أن تكونى أمة من إماء المسلمين، ونعم الخلف أنا لك بعد أبيك». هكذا قال معاوية بعد أن دان له الأمر لابنة عثمان المطالبة بثأره.