نتعامل مع بعضنا البعض بقدر كبير من الإنسانية, وكنا نحب بعضنا البعض, وكنا نخاف علي بعضنا البعض, وكنا نعترض علي من يتطاول ويحاول سلب حقوق الآخرين. فإذا تعرضت فتاة لمعاكسات في الشارع كانت تجد بدل الشاب المدافع عنها عشرة. وكان إذا صعد الأتوبيس رجل مسن أو معاق أو غير ذلك, كان الركاب يتبارون في التخلي عن كراسيهم له. وحشتني إنسانيتي! هذا هو الشعور الذي يتملكني هذه الأيام! موقف صغير جدا تعرضت له أخيرا وكان يفترض أن يمر مرور الكرام, لكنه احتل جانبا كبيرا من تفكيري. كنت في سوبرماركت كبير لشراء بعض الاحتياجات, وكالعادة لا يعترف أحد باختراع إسمه' الدور' أو بمعني آخر من يأت أولا تتم خدمته أولا. ولذلك فإنني أؤهل نفسي نفسيا قبل التوجه إلي أي مصلحة أو مكان يتحتم علي فيه شراء تذكرة أو الاندماج مع البشر للحصول علي الخدمة ذاتها من مكان واحد أن اتذرع بالصبر والجلد, وأن أبذل قصاري جهدي لتجاهل التصرفات التي باتت عادية, ومنها أن يتفاتك القادم بعدي ويزرع نفسه أمامي للحصول علي الخدمة قبلي. فأنا من أشد المعجبات بالاختراع العبقري المسمي ب'الطابور' والذي يحفظ دور كل مواطن ومواطنة, ولكن للأسف شاب الطابور في مصر العديد من المشكلات, أبرزها تفضيلنا للشكل الدائري وليس الخط المستقيم, وهو ما يعني التفاف المواطنين حول شباك التذاكر ورفضهم التام لفكرة الاصطفاف. كما أن قيام أحدهم بتجاوزك وكأنك غير مرئي تماما, والوقوف أمامك يقابل عادة- في حال تعبيرك الجهري عن استيائك- بشجب عنيف وإدانة حقيقية من كل المحيطين. فبدلا من أن يؤيدوا اعتراضك, ويساندونك في الاحتفاظ بحقك في دورك, وتبكيت الشخص الذي احتال ونصب واستهبل ووقف أمامك, فإنهم يوبخونك بعبارات وكلمات علي شاكلة:' وحصل إيه يعني؟! هي الدنيا طارت؟!' و'ماله يعني؟! أكيد؟! أكيد مستعجل!' أو' ناس تافهة صحيح. ييجوا للهايفة ويتصدروا!' من أجل كل هذه الأسباب أحاول قدر الإمكان تجاهل ما يحدث من تعديات صريحة وصارخة علي دوري في أي طابور حقنا للدماء, وحتي لا أعيش حياتي كلها وأنا أخوض معارك مكتوبا عليها بالخسارة. وأعود إلي رحلتي إلي السوبرماركت, والتي جعلتني أشعر بقدر كبير من التوستالجيا تجاه إنسانيتي. فقد توجهت إلي ركن المأكولات الساخنة, ووقفت بجوار رجل كان ينتظر قدوم العامل المختص. وإذا بالعامل يظهر فجأة ويتوجه إلي راسا, رغم أن هناك من يقف قبلي. وسألني:' أيوه تأمري بإيه؟' فكرت لثوان, ونظرت إلي الرجل الذي التزم الصمت تماما, وإن بدت عليه علامات عدم الارتياح. ولأن الشيطان شاطر, فقد جاءتني فكرة التلذذ بتعذيب الغير والضغط علي أعصابه, وتخطي دوره, واغتصاب حقه. ولم لا, والآخرون يفعلون ذلك دائما بي؟! لكني عدت إلي صوابي, وقلت بسرعة:' الأستاذ كان مستني قبلي!' نظر إلي الرجل وهو غير مصدق لما حدث, وقبل أن يطلب ما يريد من العامل قال لي والخجل يملأ ملامح وجهه:' بجد أشكرك جدا علي ذوقك!' أعادتني هذه العبارة الرقيقة لسنوات طويلة مضت, سنوات كنا في حينها ناسا علي قدر بالغ من الذوق ورقة المشاعر. كنا نمشي في الشارع وإذا خبط مواطن مواطنا آخر دون أن يقصد أثناء مشيه علي الرصيف, كان يعتذر له. وكان سائق التاكسي لو وقف ليقل سيدة متقدمة في السن, وتتكئ علي عصا, كان يهرع بالنزول لمساعدتها, والتأكد من أنها جلست وأن كل مقتنياتها معها قبل أن ينطلق. وكان سائق الأتوبيس يراعي صعود أو نزول سيدة أو فتاة, فيتوقف تماما ولا ينطلق إلا بعد أن يتأكد من أنها جلست أو في وضع آمن تماما. بل انه كان يتدخل أحيانا لو لم تجد السيدة كرسيا شاغرا لتجلس عليه, فكان يطلب من أحد الركاب التخلي عن كرسيه له. كنا نتعامل مع بعضنا البعض بقدر كبير من الإنسانية, وكنا نحب بعضنا البعض, وكنا نخاف علي بعضنا البعض, وكنا نعترض علي من يتطاول ويحاول سلب حقوق الآخرين. فإذا تعرضت فتاة لمعاكسات في الشارع, كانت تجد بدل الشاب المدافع عنها عشرة. وكان إذا صعد الأتوبيس رجل مسن أو معاق أو غير ذلك, كان الركاب يتبارون في التخلي عن كراسيهم له. صحيح أننا طول عمرنا لا نحب الطابور, حتي في عز أيام الخير والذوق, إلا أن الأمر لم يصل أبدا مثلا إلي درجة تبادل إطلاق النار في طابور العيش مثلا. فعلا وحشتني إنسانيتي, ووحشتني إنسانية الآخرين معي. [email protected]