أقدامنا المتسخة تعرف المسافات بدقة وتشتاق للطرقات, حين تدفئها الأغطية, والحنان التقليدي للأهل ندور حول القرارات الحاسمة للأمهات, بكل تلك الحيل الساذجة التي تشبه بعضها, حتي ان امهاتنا كن يضحكن في جلسات المساء من تطابق حججنا, لننفلت الي اللعب خلف البيوتات الهانئة. لكن صلاح كان أكثر رغبة في حماية وجودنا بالتشكيل نفسه, والمنطق الهادئ للمتنا, لم أكن أدرك بالوعي نفسه الذي أدون به حكايتنا الآن, انه لهذا الحد أرادنا أن نحميه من الانتهاء, وانني حين كنت أتشبث بيديه وهو يدور بي في لفات متتابعة يطيرني بها في الهواء فأخف لحد الفرح, كنت أعبئ التفاصيل في ذاكرتي لأحميه من النسيان, وحين كان يتركني التصق بقدمه اليسري وأغمض عيني لأحفر في روحي كل المفردات التي تخلقها اللعبة, والتي بالتأكيد كان صلاح يعنيها بالضبط ليبقي في وعينا بعدما يرحل, كنت أختزن دفئه في روحي خلسة وأنا أحتج بالدوار والصغر. صلاح, لم يكن أكبرنا بالتأكيد, ولكني كنت أصغرهم, في التاسعة بالضبط حين كان يدفع عني شقاوات الصحاب وحين كان يحملني الي بيتنا لما تقرر أمي ان تنهي ارهاقي بالماء الدافئ والحنان, يأخذني نصف نائمة فأطوق في عنقه بأحلامي وأرجوه أن يأتي باكرا ليأخذني للعب, لكنه يعود صباحا ليعلمني الأرقام, فأعد معه الخطوات في لعبة الحجلة قبل أن اشتبك مع الصبيان في شجارات مفعمة بالهرج والسذاجة. صلاح الذي كان يستنبت نفسه في عقولنا استطاع ان يجمعنا حتي الان في كادرات متتابعة من السنين التي نمت خلف الوعي. نقف معا صفا في مواجهة الفريق الآخر, حين يدفعون الكرة في مرمانا وأحاول أن أفك يدي من يده لأجري مع الصحاب, لكنه يشدد وطأة الذكري علي روحي وهو يخاف علي اقدامي الصغيرة وتصميمي علي اللعب بالكرة مع الصبيان, يحملني للجلوس علي عتبة بيتنا وصوته يتردد الي الأبد: انت ورد... وكان الأولاد يجذبون شعري عندما يتركنا ليعود محملا بالحلوي الصفراء أو العيش المقرمش فأتحاشي في تقلبات العمر كل نقاط ضعفي وأترك ضفائري بعيدا عن المشهد. يتداخل الصحاب في ذاكرتي فلا أعرف من منهم يدون الآن حكايانا كما أفعل, وما مقدار الزوايا الصالحة للتذكر, وهل ركز أحدهم بؤرة ذاكرته علي يدي لحظة ان انسلت من يد صلاح وهو يسقط وسط لعبتنا؟! وبالتأكيد, أنا أتحايل علي التتابع ليجمعنا كما كنا بالضبط, وبتنسيق لحركة طفولتنا حين كنا نجري خلف البيوت ونقذف بعضنا بالطوبات الصغيرة فتؤلمنا ولا نبكي الا أوقات الفراق حين نغافل أهلنا ونفتح النوافذ والأبواب في توقيت واحد لنضبط بعضنا نضج بالشوق لبعضنا ونضحك أو نختلق الحجج لنتواري أو نبرر بالخجل المفعم بالبراءة. صحابي الذين اتسخت اقدامهم الولعة بالمحبة, حتما يذكرونني, وربما حملقوا في صوري المذيلة باسم لم يألفوه بعدما كبرت علي تدليل طفولتي, وكان يجب ان أوقع الكتابات باسمي, انهم لايعلمون انني أحفظ اسماءهم الحقيقية واستطيع بدقة تحديد الوان عيونهم وشكل شواربهم وتكتل عضلاتهم لكنهم حتما ينظرون لعيني عبر الشاشة ويوقنون اني ورد الشقية التي كانت تهديهم أوراق كراساتهم بلوحات ساذجة, وخطابات تخبرهم فيها بمحبتها ثم يزجرها المدرس فتكتب لهم من جديد عن محبتها. صحابي الذين ستغريهم طيبة عيوني وحيرتها, فينبشون الذاكرة ليستخرجوا التشابه ثم تطابق شوقي لمحبتهم باسم طفولتي, وحين تتدافع شقاواتي الي وعيهم, تشف أرواحهم عن بسمات تزيح الزمن, يبين صلاح في المشهد كله فيضحك صحابي حين يقفز صلاح الي الوعي بكل هذا الوضوح الجارح فيقتربون من صورتي ليقرأوا ما اكتب, لكنهم يجدون لمتنا بالتشكيل نفسه الذي حرص صلاح علي ان يكون في وسطه ليدفع عني أياديهم التي تستبق الزمن بالأشواق المتشابهة.