لن استخدم هذه المساحة في تبرير أو تحليل إعلان الخارجية الأمريكية تعليق بعض المساعدات العسكرية إلي مصر, لأن الأهم فيما أعتقد أن هذه الخطوة غير المسئولة تزكي الانطباع لدي جموع المصريين وصناع القرار السياسي, بأن فشل مشروع التقسيم والتفتيت بقيادة جماعة الأخوان المسلمين للمنطقة العربية, يقف وراء هذا القرار, إضافة إلي أن هذه الخطوة تستدعي إلي الذاكرة قرار واشنطن برفض تمويل مشروع بناء السد العالي في منتصف الخمسينيات, ذلك القرار الذي فتح الطريق واسعا أمام عبد الناصر للانطلاق نحو عالم بلا تبعية ولا هيمنة..عندما قررت مصر أن ترد فورا علي الموقف الأمريكي لفرض هيمنتها بالتوجه شرقا, وبناء مظلة دول عدم الانحياز. ومن حسن الطالع أن القرار الأمريكي ذلك كان بداية لانطلاقة مصر لتصبح دولة إقليمية مهمة ومؤثرة علي جميع الأصعدة, وانطلقت الصناعة المصرية لتصبح نموذجا لكل دول العالم الثالث في حينه, ولا تزال مصانع الحديد والصلب والمحلة والكيماويات والأسمنت وغيرها, خلال تلك السنوات تحكي كيف كانت مصر بنهضتها العلمية والصناعية نموذجا ومثالا لبناء معجزات الصين والهند فيما بعد. والمدهش أن القرار المصري بقطع الطريق علي محاولات الهيمنة والاستعباد الأمريكي جاء مبكرا في عهد الزعيم جمال عبد الناصر, الذي لا زال حاضرا في ذاكرة ووجدان كل وطني وقومي عربي ومتحرر من عقلية التبعية والسمع والطاعة,هي في واقع الحال انطلاقة جاءت بسبب لعبة قامت بها إدارة أوباما الحمقاء, لتجسد مصر معني معاصر لمفهوم الكرامة الوطنية. و أتصور أن التخلي عن المعونة الأمريكية بشقيها الاقتصادي والعسكري لن يضر باقتصاد أو جيش مصر, بل علي العكس من ذلك سيحرر الإرادة المصرية من السيطرة الأمريكية, ويجعلها قادرة علي إتباع سياسة زراعية تحقق الاكتفاء الذاتي من القمح, وسياسة عسكرية تمكنها من تنويع مصادر سلاحها لإنهاء التفوق العسكري الإسرائيلي الذي تضمنه الولاياتالمتحدة لها. كما أن قطع المعونة من الجانب الأمريكي أو التخلي عنها من الجانب المصري لا يجب أن يكون سببا في أزمة سياسية أو قطيعة دبلوماسية بين مصر والولاياتالمتحدةالأمريكية, ولكن يجب أن يكون نقطة انطلاق نحو علاقات اقتصادية وسياسية متوازنة ومتكافئة ليس مع الولاياتالمتحدة وحدها ولكن مع كل دول العالم. وعلي الحكومة المصرية مصارحة الشعب بحقيقة المعونة بعيدا عن الإثارة الإعلامية وتهييج المشاعر الشعبية, لأن الشعب المصري الذي صنع ثورة ملهمة لدول العالم لا يسعي إلي الصدام وقطع العلاقات, لكنه يرغب في تأسيس علاقات متميزة مع جميع الدول ليتمكن من إعادة بناء مصر الثورة. ما لا تراه إدارة أوباما الديمقراطية المصابة بعمي سياسي لا سابق له, نظرا لعدائها شعوب المنطقة لحساب اختيارها جماعة, أن المنطقة العربية قد دخلت فعلا مرحلة الربيع السياسي, ربيع يفتح الباب واسعا لبناء معادلات سياسية بعيدا عن الهيمنة والاستعباد والفساد السياسي, وما تشهده المنطقة في المستقبل سيكون عصرا جديدا من الشراكة السياسية الإقليمية التي تقوم بين دول عربية بعيدا عن حساسيات الماضي, علاقة قائمة علي التكامل وليس التنافر, خاصة بعد افتضاح دور أمريكا في التآمر علي مجمل البلدان التي عرفت بأنها حليفة لها, وليس نشر المخطط التقسيمي لدولة مثل العربية السعودية سوي نموذج ساطع, ولذا فالحراك العربي القادم لن يقتصر علي تمرد الشعوب علي حكامها بل تمرد دول عربية علي السيطرة والهيمنة الأمريكية. ولعله بات ضروريا العمل الجاد علي تحقيق مطالب الثورة التي تنادي بتطهير مؤسسات الدولة من المفسدين من بقايا نظامي مبارك والإخوان, لأن هناك تخوفا حقيقيا من انتهاجهم لسياسة التصفير, التي تعمل علي تسليم الدولة في نهاية المرحلة الانتقالية للحكومة بخزانة خاوية ومثقلة بالديون وفوائدها, وعلاقات دولية وإقليمية متوترة, وفتن داخلية بين المسلمين والمسيحيين, وبين الشعب والجيش, إلي آخر السياسات التصفيرية التي يشعر بها الجميع وينسبونها في سخرية للهو الخفي. وفي الختام أري أنه بعد الانتهاء من كتابة الدستور وإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية, وبناء نظام سياسي مختلف سنشهد حالة تمرد شاملة علي الفساد السياسي الأمريكي ومشروعه التقسيمي بكل أدواته المحلية والإقليمية. رابط دائم :