لن أستخدم هذه المساحة في تبرير أو تحليل إعلان الخارجية الأميركية تعليق بعض المساعدات العسكرية إلى مصر، بسبب لأن الأهم لتنفيذ مشروع "التقسيم والتفتيت" للمنطقة، قد تكون الخطوة التي تماثل قرار واشنطن برفض تمويل السد العالي في منتصف الخمسينيات، ذلك القرار الذي فتح الطريق واسعا أمام مصر عبد الناصر للانطلاق نحو عالم بلا تبعية ولا هيمنة..قررت مصر أن ترد فورا على الموقف الأميركي لفرض هيمنتها على قرار مصر بالتوجه "شرقا. وكانت بداية لانطلاقة مصر لتصبح دولة إقليمية هامة ومؤثرة على الصعد كافة، وانطلقت الصناعة المصرية لتصبح نموذجا لكل دول "العالم الثالث" في حينه، ولا تزال كلمات رئيس وزراء سنغافورة خلال تلك السنوات كيف كانت مصر بنهضتها العلمية والصناعية نموذجهم ومثالهم لبناء "المعجزة السنغافورية"، القرار المصري بقطع الطريق على محاولات "الهيمنة والاستعباد الأميركي" مبكرا في عهد البطل التاريخي والزعيم ناصر، الذي لا زال حاضرا في ذاكرة ووجدان كل وطني وقومي عربي ومتحرر من عقلية التبعية والسمع والطاعة ..انطلاقة جاءت بسبب لعبة قامت بها إدارة حمقاء لتجسد مصر معنى معاصر لمفهوم "الكرامة الوطنية". واليوم يبدو وكأن التاريخ يمنح مصر "هبة جديدة" لإعادة الاعتبار لما حاولت أمريكا أن تقوم به ل"سلب الكرامة الوطنية"، من خلال تعليق بعض المساعدات، وكأنها لا تزال تظن أنها القوة القادرة لفعل ما يحلو لها في مصر والمنطقة، القرار الأميركي سيكون بابا لانطلاقة معاصرة لترسيخ أسس وعناصر مصر الجديدة، بعيدا عن أمريكا وإذنابها بكل التلاوين سواء من عناصر تيار الظلامية السياسية الذين تسللوا إلى صفوف "الثورة" لغاية في نفس أمريكا، ثم سرعان ما انكشفوا فهربوا، أو تيار "الظلامية الفكرية" الذين اعتقدوا أن خداعهم التاريخي للشعوب باسم الدين كافيا لأن يرسخهم حكاما إلى أبد الآبدين، خاصة وأنهم وجدوا في أمريكا سندا وداعما، فكل يبحث عما يريد، تيار يريد سلطة، أي سلطة، ودولة استعمارية تبحث تنفيذ مخططها الجديد لتقسيم المنطقة، كما تم نشره حديثا في أحد أهم صحف أمريكا "نيويورك تايمز. ما لا تراه أمريكا أو تصر هذه الإدارة المصابة بكمية حماقة سياسية لا سابق لها، لعدائها شعوب المنطقة لحساب اختيارها جماعة، أن المنطقة العربية قد دخلت فعلا مرحلة "الربيع السياسي"، ربيع يفتح الباب واسعا لبناء معادلات سياسية بعيدا عن الهيمنة والاستعباد والفساد السياسي، وما ستشهده المنطقة في المستقبل سيكون "عصرا جديدا" من "الشراكة السياسية الإقليمية" التي تقوم بين دول عربية بعيد عن حساسيات الماضي، علاقة قائمة على التكامل وليس التنافر، خاصة بعد افتضاح دور أمريكا في التآمر على مجمل البلدان التي عرفت بأنها "حليفة لها"، وليس نشر المخطط التقسيمي لدولة مثل العربية السعودية سوى نموذج ساطع، ولذا فالحراك العربي القادم لن يقتصر على "تمرد الشعوب" على حكامها بل أيضا "تمرد" دول عربية على السيطرة والهيمنة الأميركية. ولأن الإدارة الأميركية تعيش في وهم خاص، فلا ترى أن الشعوب والحكام قد استوعبوا جيدا ما أصاب عطل محركاتها الإرهابية ضد دول وشعوب، وإنها دولة بدأت تترنح أمام حقائق سياسية وقوى صاعدة نجحت في كسر حالة الاختطاف الأميركية للقرار العالمي لسنوات طويلة، فعلت خلالها كل ما يمكن وصفه بالأقبح سياسيا وعسكريا ضد دول وشعوب، وآن أوان وضع حد لهذه المرحلة البائسة فعلا، والدخول حقا في مرحلة "ربيع سياسي عربي وإقليمي جديد"، يعيد صياغة المعادلة الإقليمية ضمن حقائق مختلفة عن الماضي البغيض.. وتلعب الحماقة الأميركية دورا مسرعا في الانطلاقة العربية الجديدة، وعل موقفها من مصر والجماعة الاخوانية هو أحد أهم قاطرات قوة الدفع التي سيكون لها أثر كبير في رسم ملامح القوة الإقليمية العربية الحديثة، ضمن "تكامل إقليمي من طراز خاص. ولعله بات ضروريا لأن يعود البعض في الإدارة الأمريكية لمراجعة بيان الملك السعودي عبد الله بعد ثورة مصر وإسقاط حكم الجماعة الاخوانية، بيان يحمل من ملامح التمرد السياسي، ما لم يكن متوقعا قبل سنوات أن يصدر عن حاكم سعودي مثل هذا التحدي والتهديد للموقف الأميركي تجاه ثورة مصر، بيان يحمل قراءة لحقائق المشهد الدولي المعاصر، وإدراكا لطبيعية المخطط الأميركي تجاه المنطقة، بما فيه ما يخطط للعربية السعودية ذاتها، والموقف السعودي لن يقف عند حدود لغوية بل سينتقل إلى قوة دعم ومساندة كاملة للثورة المصرية، ومعها دولة الإمارات العربية التي أعلنت أنها ستقف مع مصر بكل ما يمكن أن تحتاجه، وعاد وجه الشيخ زايد ليشرق في سماء المحروسة، دعما وعملا بلا شروط أو فوائد خاصة كما فعلت تلك البلدة ذات القناة الصفراء..ومن يقرأ الموقف الكويتي والأردني سيدرك أن معادلة "القوة السياسية العربية القادمة." سيكون لها مفاعيل غير تلك التي سادت في المنطقة طويلا وبعد انتهاء المسألة السورية، وبناء نظام سياسي مختلف سنشهد حالة "تمرد" عربية شاملة على "الفساد السياسي الأميركي" ومشروعه التقسيمي بكل أدواته المحلية والإقليمية، وستظهر قوة عربية فاعلة صاحبة موقف وحضور في الخريطة الدولية المقبلة، وستنتهي مرحلة التلاعب بالمصير العربي التي سادت في "الزمن الأميركي الردئ"..حماقة أمريكا دائما تكون بابا للتمرد والانعتاق نحو مستقبل مختلف. *كاتب ونائب رئيس تحرير الأهرام المسائي