إن حب الوطن غريزة قد غرسها الله في قلوب عباده.. هو أمر فطري فطر الله الناس عليه, فقد جبلت النفوس السليمة علي حب بلدانها, واستقرت الفطر المستقيمة علي التشوق إلي أوطانها, يحبون أوطانهم وهم يعيشون في كنفها, ويحنون إليها إذا ابتعدوا عنها.. ولا أشطط إذا قلت إن الطيور لتحن إلي أوكارها, والدواب العجماوات لتحافظ وتدافع عن أماكنها ومواطنها, فطرة أودعها الله تلك المخلوقات فعليها تعيش وتحيا يقول الأصمعي:( ثلاث خصال في ثلاثة أصناف من الخلق, الإبل تحن إلي أوطانها, وإن كان عهدها بها بعيدا, والطيور تحن إلي أوكارها, وإن كان موضعها مجديا, والانسان يحن إلي وطنه, وإن كان غيره أكثر نفعا منه) ويقول أحد العقلاء( إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر تحننه إلي أوطانه وتشوقه إلي إخوانه)..( ويقول عمر رضي الله عنه: ما عمر الله البلدان إلا بحب الأوطان).( وقيل: من علامات الوفاء أن تكون النفس لبلدها تواقة وإلي مسقط رأسها مشتاقة). فللوطن الذي ولد فيه الإنسان, ونشأ وترعرع فيه, مكانته في القلوب, يحن الانسان لذكرياته, وأيام صباه, ومرعاه مع والديه وأهله وجيرانه وخلانه وأحبابه نما تحت سمائه وتربي علي أرضه وهذا إن كان من الوفاء في شيء فهو من الايمان في أشياء, يقول الجاحظ في رسالته الحنين إلي الأوطان: ( كانت العرب إذا غزت, أو سافرت حملت معها من تربة بلدها رملا وعفرا تستنشقه) يقول ابن الزبير: ليس الناس بشيء من أقسامهم( أي ما قسمه الله لهم من الأرزاق والحظوظ) أقنع منهم بأوطانهم نعم نحب أوطاننا ولا نعلم لم نحبها؟.. فقد يكون وطنك من أفقر بلاد الله ولكنك رغم هذا تحبه.. قد يكون وطنك لا تأكل أنت خيره.. ليس لك فرصة أن تعيش فيه حياة كريمة.. قد يكون جو وطنك سيئا.. قارس البرد في الشتاء. أو شديد الحرارة في الصيف.. أو ممطرا أو جافا طوال العام.. ومع ذلك كله لا تحب أن تفارقه.. قد تعيش في وطنك معدما فقيرا لا تمتلك إلا بالقليل قوت يوم بيوم لكنك رغم هذا لا تهوي أن تغادره.. إن شعورك نحو حب وطنك شعور لا سلطة لك عليه فحبنا لأوطاننا شعور لا إرادي ليس له تفسير مقنع لا تستطيع أن تعلله فتقول لم أحب وطني؟ لأنك إن قلت لم أحب وطني؟ لكان الجواب لأنني أحب وطني.. حب الوطن ليس له تفسير إلا كحب الطفل لأمه بغض النظر عن شكلها أو لونها أو جنسها أو أي شيء آخر. ولله ما أروع قول من قال: وكنا ألفناها ولم تك مألفا وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن كما تؤلف الأرض التي لم يطب بها هواء ولا ماء ولكنها وطن.. إن محبتك لوطنك تغرس في قلبك منذ ولادتك منذ أن سقطت علي ترابه فمهما تغربت ومهما ابتعدت ومهما حل بك من شدة ومهما حاق بك من جوع وفقر فاضطررت لأن تتغرب عن وطنك فإنك أبدا لن تنسي أنك ابن هذا الوطن عاشق لترابه وستظل تتابع أخباره من بعيد وتدافع عنه إذا هوجم وتغضب له إذا انتقص وتحن إلي العودة إليه وتتمني الرجعة إليه ولو يوما واحدا ذلك أن نفسك تشتاق إلي موطنك الأول يقول الطائي: نقل فؤادك حيث شئت من الهوي ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتي وحنينه أبدا لأول منزل يقول القائل: تربة الوطن تغرس في قلب الصبي محبة له كما يغرس في القلب نبضاته يقول إبراهيم بن أدهم( ما قاسيت فيما تركت من الدنيا أشد علي من مفارقة الأوطان) إن من عجيب ما جاء في حب الوطن قصة ميسون الكلبية فقد كانت حسيبة نسيبة من أهل البدو تزوجها معاوية بن أبي سفيان وهو خليفة المسلمين آنذاك وأسكنها قصرا منيفا وأخدمها الجواري والوصيفات وألبسها الحرير والديباج والذهب والياقوت باتت تعيش سيدة منعمة مكرمة إذا اشتهت شيئا أشارت إليه فتجده بين يديها ولكنها مع كل ما غدت فيه من نعيم ورفاهية لم تستطع أن تنسي تلك الحياة التي ترعرعت في أكنافها لقد اشتاقت إلي عيشها وبدوها دخل عليها معاوية يوما فسمعها تقول من وراء الأستار أبياتا تبثها ذلك الحنين لوطنها وعيشها فتقول خشونة عيشتي في البدو أشهي إلي نفسي من العيش الطريف وبيت تخفق الأرواح فيه أحب إلي من قصر منيف ولبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من لبس الشفوف فما أبغي سوي وطني بديلا فحسبي ذلك من وطن شريف لما سمعها معاوية حن لها وطلقها وأمر أن تعود إلي مرعاها وقبيلتها لأنها لو كانت ترغب أن تعيش في هذا المرعي الخصيب لما حنت إلي واديها القديم الجديب.