نعم ان العصر الحديث هو عصر الجودة, ففي ظل السماوات المفتوحة, واتفاقيات التجارة العالمية, وهيمنة المعايير الدولية, وتضاؤل قدرة الدولة الوطنية علي التحكم المطلق في اطار سيادتها التقليدية, وذبول النظم الحمائية للسلع داخل الدولة نفسها اصبحت معايير الجودة ضرورة عصرية, وهناك بلاشك دول قد بنت قوتها وراكمت ثروتها عبر تبنيها لنظم ومعايير شديدة الصرامة في الجودة علي سلعها وآلاتها من ثم احتلت مكانة بارزة علي مستوي العالم واخذت مكانا متقدما في التقارير الاقتصادية المختلفة. ولكن سرعان ما انتقلت معايير الجودة تلك من عالم الالات والبضائع الي عالم البشر, فاصبحت هناك نظم للادارة تتميز بمستوي عال من الجودة وكذلك مؤسسات كما انتقلت معايير الجودة الي البشر انفسهم والي الانسان الفرد ذاته. ومن هنا فقد اصبحت معايير الجودة ضرورة ملحة وخاصة في مجال التعليم والمؤسسات التعليمية باعتبار أن التعليم احد الانساق المحورية في المجتمع والذي علي أساسه من الممكن أن تنتقل تلك الجودة الي عالم الادارة والسياسة والاقتصاد والمجتمع بوجه عام باعتبار البشر من انتاج تلك الانساق التعليمية هم ادوات وعناصر الانساق الاجتماعية الاخري, أما في المجال التربوي فإن القائمين عليه يسعون من خلال تطبيق إدارة الجودة الشاملة إلي إحداث تطوير نوعي لدورة العمل في المدارس بما يتلاءم مع المستجدات التربوية والتعليمية والإدارية, ويواكب التطورات الساعية لتحقيق التميز في جميع العمليات التي تقوم بها المؤسسة التربوية. وإدارة الجودة الشاملة تعني في مجملها أنها نظام يتضمن مجموعة من الفلسفات الفكرية المتكاملة والأدوات الإحصائية والعمليات الإدارية المستخدمة لتحقيق الأهداف, ورفع مستوي رضا العميل والموظف علي حد سواء, وذلك من خلال التحسين المستمر للمؤسسة وبمشاركة فعالة من الجميع من أجل منفعة الشركة والتطوير الذاتي لموظفيها, وبالتالي تحسين نوعية الحياة في المجتمع. ويشير باحث إلي أن مفهوم إدارة الجودة الشاملة كغيره من المفاهيم الإدارية التي تتباين بشأنه المفاهيم والأفكار وفقا لزاوية النظر من قبل هذا الباحث أو ذاك إلا أن هذا التباين الشكلي في المفاهيم يكاد يكون متماثلا في المضامين الهادفة إذ إنه يتمحور حول الهدف الذي تسعي لتحقيقه المنظمة والذي يتمثل بالمستهلك من خلال تفاعل جميع الاطراف الفاعلة فيها, ولاشك أن تحويل فسلفة الجودة الشاملة الي حقيقة في مؤسسة ما, يجب ألا تبقي هذه الفلسفة مجرد نظرية دون تطبيق عملي, ولذلك بمجرد استيعاب المفهوم, يجب أن يصبح جزءا وحلقة في عملية الادارة التنفيذية من أسفل الهرم الي القمة, وهذا ما يعرف بإدارة الجودة الشاملة, وهي عملية مكونة من مراحل محددة بشكل جيد, وتحتاج الي متسع من الزمن لتحقيقها, حتي تصبح مألوفة للمؤسسة التي تتبناها, ويتم تنفيذها باستمرار. اما في مجال التعليم يقصد بإدارة الجودة الشاملة أداء العمل بأسلوب صحيح متقن وفق مجموعة من المعايير التربوية الضرورية لرفع مستوي جودة المنتج التعليمي بأقل جهد وكلفة محققا الأهداف التربوية التعليمية, وأهداف المجتمع وسد حاجة سوق العمل من الكوادر الموهلة علميا. ويعرف احد الباحثين الجودة الشاملة في التربية بأنها عملية إدارية ترتكز علي مجموعة من القيم وتستمد طاقة حركتها من المعلومات التي توظف مواهب العاملين وتستثمر قدراتهم الفكرية في مختلف مستويات التنظيم علي نحو إبداعي لضمان تحقيق التحسن المستمر للمؤسسة. وهي في نفس الوقت أسلوب تطوير شامل ومستمر في الأداء يشمل جميع مجالات العمل التعليمي, فهي عملية إدارية تحقق أهداف كل من سوق العمل والطلاب, أي أنها تشمل جميع وظائف ونشاطات المؤسسة التعليمية ليس فقط في إنتاج الخدمة ولكن في توصيلها, الأمر الذي ينطوي حتما علي تحقيق رضا الطلاب وزيادة ثقتهم, وتحسين مركز المؤسسة التعليمية محليا وعالميا. ومن الاشارات السابقة نستنتج أنه من الضروري بمكان تسخير جميع الامكانات المادية والبشرية, ومشاركة جميع الجهات والإدارات والأفراد في العمل كفريق واحد, والعمل في اتجاه واحد وهو تطبيق معايير إدارة الجودة الشاملة في النظام التربوي التعليمي, وتقويم مدي تحقيق الأهداف, ومراجعة الخطوات التنفيذية التي يتم توظيفها وتشير دراسات الجودة الي العديد من المعايير والعناصر التي لابد من توافرها في أي مؤسسة تطمح الي أن تحصل علي مكانة متميزة في ضوء المعايير المعتمدة للجودة عالميا ومن هنا فقد اهتمت الدولة المصرية بانشاء الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد, فقد اقر مجلس الشعب قانون انشاد الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد رقم28 لسنة2006, والذي اعتمده رئيس الجمهورية واصدر قرار إنشاء تلك الهيئة في نوفمبر2007 والذي ينص علي أن تلك الهيئة تتمتع بالاستقلالية وتكون لها الشخصية الاعتبارية وتتبع رئيس الوزراء, ويكون مقرها القاهرة ومع ذلك فان الهيئة منذ هذا التاريخ وعلي رغم ما توافر لها من ميزانيات وكفاءات بشرية فاننا نستطيع أن نقول بكل ثقة أن عائدها اقل مما يمكن تصوره ففي خلال ثلاث سنوات لم تعتمد الهيئة سوي270 مدرسة كما يقول موقعها الاليكتروني من مختلف محافظات الجمهورية, وهم بالتحديد10 رياض أطفال, و130 مدرسة ابتدائي و85 مدرسة اعدادي و40 مدرسة ثانوية وخمس مدارس تعليم فني ويبدو أن المصادفة وحدها هي التي هيأت لتلك المدارس الحصول علي شهادة الجودة. ولاشك أن الحصاد هزيل كما قلت وخاصة اذا علمنا ان عدد مدارس التعليم قبل الجامعي في مصر يزيد علي ثلاثة وخمسين الف مدرسة تخيل عزيزي القارئ ثلاثة وخمسين الف مدرسة أكثر من ثلاثة واربعين الف مدرسة عامة بين حكومي وخاص وحوالي تسعة الاف معهد ازهري بمراحلها المختلفة فأين تلك المشكلة أنا اظن أن المشكلة تكمن في ان الهيئة لم يتم تأسيسها علي اساس من بنية وهيكل الادارة المصرية لمختلف المؤسسات التعليمية. فادارة الجودة في الولاياتالمتحدة مثلا تنطلق من حرية المدارس في تحديد مناهجها ومستويات امتحاناتها ومستويات معلميها والتدريب الذي يحصلون عليه ومن ثم فان علي المدرسة ان تبذل الجهد لتحصل علي مكانة متميزة في الجودة ومن ثم يمكنها ان تزيد مصروفاتها أو تزيد ماتحصل عليه من معونة من الحكومة الفيدرالية أو حكومة الولاية. ومن هنا فلا علاقة للجودة بهذا المفهوم ببنية نظام التعليم المصري الذي يعتمد المركزية الشديدة في ادارته ومناهجه وتعيين معلميه وامتحاناته وغير هذا من مفردات التعليم. فاذا كانت المرتبات والمكافآت مقررة سلفا من الوزارة فما الذي يدفع مديرا للاجتهاد والتغيير, واذا اعترضت هيئة الجودة مثلا علي مؤهلات بعض المدرسين أو مستوي تدريبهم أو نظم الامتحانات فماذا يملك مدير المدرسة في تلك الحالة من صلاحية للتغيير والاختلاف وهو بالكاد لايستطيع أن يحرك كرسيا من مكانه الا في ضوء التعليمات.وفي النهاية فاغلب الظن أن الذين سارعوا بإنشاء تلك الهيئة فعلوا ذلك من منطلق انها شكل عصري ضروري وجذاب دون أن يلتفتوا بما فيه الكفاية الي غرسها في تربة الادارة وبنية التعليم المصري ولهذا حديث اخر. [email protected]