لما يئس موسي من إيمان فرعون وقومه, لتكبره عن اتباع الحق, وصده عن سبيل الله ونعاندته وعتوه وتمرده, واستمراره علي الباطل, دعا ربه: ربنا إنم آتيت فرعون وملأه زينه وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربما اطمس علي أموالهم واشدد علي قلوبهم فلا يؤمنوا حتي يروا العذاب الأليم, وهذه دعوة غضب لله تعالي ولدينه ولبراهينه, فاستجاب الله تعالي لها, وحققها وتقبلها, وأوحي الله إلي موسي أن يسري بعبتده المؤمنين, وأن يرحل بهم ليلا, وأمره أن يقود قومه إلي ساحل البحر, وهو في الغالب عند التقاء خليج السويس بمنطقة البحيرات. وعلم فرعون بخروج بني اسرائيل خلسة, فأمر ب التعبئة العامة, وأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له الجنود, ليدرك موسي وقومه, ثم انطلق وجنوده يتبعون خطا موسي وقومه, فكان خروجهم الأخير, بل هو إخراج لهم من كل ما هم فيه من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم, فلم يعودوا بعدها لهذها النعيم! وصل موسي ومن نعه حتي صاروا أمام البحر, ليس معهم سفين, ولا يملكون خوضه, وليسوا مسلحين, وقد قاربهم فرعون بحنوده يطلبونهم ولا يرحون, فأصبح الحال: أن لا مفر, البحر أمامهم والعدو خلفهم, فقال أصحاب موسي إن لمدركون, ولكن موسي الذي تلقي الوحي من ربه, لا شك لحظة وملئ قلبه الثقة بربه, واليقين بعونه, والتأكد من النجاة, وإن كان لا يدري كيف تكون, واقترب فرعون وجنوده في جدهم وحدهم وحديدهم, وغضبهم وحنقهم, وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر, عند ذلك أوحي الحليم القدير, رب العرش الكريم, إلي موسي الكليم: إن اضرب بعصاك البحر, فضربه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم, ويقال إنه انفلق اثني عشر طريقا, لكل سبط طريق يسيرون فيه, فانطلقوا يعبرون البحر, في طرق ممهدة يابسة كأن لم تر الماء من قبل إكراما لنبيهم, وتصديقا لوعده إياهم, حتي خرجوا من الناحية الأخري إلي أرض سيناء المباركة. رأي فرعون ما رأي, وعاين ما عاين, وهاله هذا المنظر العظيم وتحقق ما ان يعرف قبل ذلك, من أن هذا من فعل رب العرش الكريم, فأحجم ولم يتقدم, وندم في نفسه علي خروجه في طلبهم, والحالة هذه حيث لا ينفعه الندم, لكنه أظهر لجنوده تجلدا, وحملته النفس الكافرة والسجية الفاجرة علي أن قال لمن استخفهم فأطاعوه, وعلي باطله تابعوه: انظروا انحسر البحر لي لأدرك عبيدي الآبقين من يدي, الخارجين علي طاعتي وبلدي؟ وجعل يتردد في نفسه أن يذهب خلفهم, ويرجو أن ينجو وهيهات, ويقدم تاره ويحجم تارات, ثم غلبه قدره وقضاء الله, فاقتحم البحر مسرعا, فلما رأته الجنود قد سلك البحر اقتحموه وراءه, جتي إذا كان أولهم قد قارب الخروج منه, ودخله آخرهم, فعند ذلك أوحي الله تعالي إلي كليمه أن يضرب بعصاه البحر, فضربه فارتطم عليهم البحر كما كان, فلم ينج منهم إنسان. أما فرعون فلما أدركه الغرق, وعاين الموت, ولم يعد يملك نجاة, قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت بن بنو إسرائيل وأنا من المسلمين, فيجيئه الرد من المنتقم الجبار: الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين؟! الان حيث لا اختيار ولا فرار؟ فاليوم ننجيك ببدنك, لا تأكله الأسماك, ولا يذهب مع التيار, بل يبقي جسده, ليدرك من وراءه من الجماهير كيف كان مصير, لعلهم يتعظون ويعتبرون, وإن كثيرا من الناس أن آياتنا لغافلون.