(قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [سورة الشعراء/ آية 62](*) تحدثت في المقال السابق عن "كَلاَّ" في هذه الآية و بما أراه فيها و كان محور الحديث عن هذه الكلمة المفتاح هو أن الإيمان القوي بالله و إن كان أحد دعائم النثر إلى أنه لا يعني التواكل و بقيت أمور تحتاج تفسيراً (لي أنا) وأحاول هنا أن أجتهد معكم في المعني. تقول الأية الكريمة (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) و لم تقل (كلا إن ربي معي سيهدين) و ما أعنيه هو أن سيدنا موسى قدم نفسه على كلمة (ربي) وأنا هنا لا أجد مثالاً أروع و لا أجمل منه ليظهر لنا الفرق بين التوكل و التواكل. سيدنا موسى عليه صلاة الله و سلامه يقول (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي أن موقف سيدنا موسى هنا يقول أنه لن يهرب و لن يخاف و لن ينتظر إنقاذه من فرعون و جنوده دون أدنى عمل من ناحيته وليس هذا عن كبر و غرور ولكن عن وعيٍّ تام بمعنى التوكل على الله. سيدنا موسى هنا يقول سأقف أمام الفرعون بقدرتي البشرية و كل قوتي التي منحني الله إياها إن كان هذا هو مراد الله تعالى لي (و لكم - فهو أيضاً مسؤول عن أتباعه) و لن أنهزم أو أخنع أو أتنازل و (الله) ربي معي سيهديني (أي يُرشدني و يَدلني) إلى الكيفية التي أستطيع بها أن أقف أمام فرعون و جنوده. الجملة نفسها (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) هي في أصلها دعاء من سيدنا موسى عليه السلام إلى الله بأن يهديه للطريق الذي ينقذه من موقفه هذا. مجمل الجملة (الآية) يعني أن سيدنا موسى لم ينظر لأبعد من الموقف الذي هو فيه - أمامه البحر و لا توجد وسيلة للعبور و خلفه قائد ظالم متجبر ومعه جيشه الجرار يثير الأرض و ينهبها للحاق به(**) من دون أن تكون معه قوة لمجابهته - فكان القرار الرجولي بأنه سيقف أمام الجيش غير منهزم (أي خانع معلنٌ للإستسلام و الدخول في طاعة الفرعون) - إن إضطّر- واثقاً من هداية ربه له للكيفية التي سيتم بها هذا الوقوف. لم يتردد لحظة كما دلت جملتة (قال كلا.) في حالة (إن ربي معي سيهدين) سيكون الأمر تواكلاً تاماً على الله بما يوحي بأنه سيكون متلقٍ فقط للأمر من الله وهو إن قالها فهو كأنما يقول ها يارب ها نحن هنا فأين السبيل!؟ و بالجملة أيضاً نوع من الضعف و قد توحي بالإستسلام و هي صفات لا تليق برجل إختاره الله سبحانه و تعالى نبياً و رسولاً لقوم نحن نعلمهم تمام العلم - فكيف وهو من أولي العزم من الرسل!؟ رسول الله موسى حباه الله قدرة على إستعياب الموقف الذي يفوق قدرة البشر و يؤكد لنا أن الصنعة على عين رب العالمين ليس كأي صنعة - سبحان الله. يقول إبن كثير: {فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ" أَنْ اِضْرِبْ بِعَصَاك الْبَحْر "وَقَالَ قَتَادَة أَوْحَى اللَّه تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَى الْبَحْر أَنْ إِذَا ضَرَبَك مُوسَى بِعَصَاهُ فَاسْمَعْ لَهُ وَأَطِعْ فَبَاتَ الْبَحْر تِلْكَ اللَّيْلَة وَلَهُ اِضْطِرَاب وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيّ جَانِب يَضْرِبهُ مُوسَى فَلَمَّا اِنْتَهَى إِلَيْهِ مُوسَى قَالَ لَهُ فَتَاهُ يُوشَع بْن نُون يَا نَبِيّ اللَّه أَيْنَ أَمَرَك رَبّك عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَالَ أَمَرَنِي أَنْ أَضْرِب الْبَحْر قَالَ فَاضْرِبْهُ وَقَالَ مُحَمَّد اِبْن إِسْحَاق أَوْحَى اللَّه - فِيمَا ذُكِرَ لِي - إِلَى الْبَحْر أَنْ إِذَا ضَرَبَك مُوسَى بِعَصَاهُ فَانْفَلِقْ لَهُ قَالَ فَبَاتَ الْبَحْر يَضْطَرِب وَيَضْرِب بَعْضه بَعْضًا فَرَقًا مِنْ اللَّه تَعَالَى وَانْتِظَارًا لِمَا أَمَرَهُ اللَّه وَأَوْحَى اللَّه إِلَى مُوسَى " أَنْ اِضْرِبْ بِعَصَاك الْبَحْر"} غير أن سياق الآية لا يوحي بانه كان هناك وقت للأخذ و الرد مع التابع - الآية واضحة حين تقول (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ {61} قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ {62} فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ {63} ) فحين يرى كل فريق الأخر يصبح من المنطقي أن يقول الفريق الأضعف (إنا لمدركون) كصيحة هزيمة يئدها في مهدها قول سيدنا موسى (كلا) لا يوجد أي وقت للحوار مع فتاه كما أن الحوار المذكور يعني أن سيدنا موسى قد أذهله الموقف عن نفسه حتى أنه نسي أمر ربه فذكره أحد تابعيه به (!) و هو أمر يستحيل تصديقه فسياق قوله تعالى {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ {63} } يعني أن الوحي كان بعد دعائه لربه أن يرشده الطريق للخروج من الموقف بلحظات بدليل حرف الفاء في كلمة "فأوحينا" حيث لا تفيد المصاحبة بل العطف بعد مرور لحظات و هو ما يعني أن أمر الله لسيدنا موسى كان ساعة الموقف و لم يكن رسول الله موسى لينسى مفتاح نجاته و نجاة قومه. ثم لدينا حرف السين في (سيهدين) أي أن الوحي له بضرب البحر كان في علم المستقبل بالنسبة لسيدنا موسى فكيف ينساه!؟ كما لا أظن أن رب العزة يحتاج أن يوصي البحر أن إذا ضربك موسى إنفلق له! فالمعجزة - من إسمها - هي عمل معجز في ذاته وتوقيت حدوثه و تفقد المعجزة معناها إذا ما تم الترتيب لها - فالله سبحانه لا ينتظر الأحداث لينفذ مكره بل إنه ليمهلنا حتى لا نستحق هذا المكر والدليل هنا هو ما كان من قوله سبحانه للنار في حادثة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام - جد النبي الأعظم عليه الصلاة و السلام - فالله أصدر الأمر للنار وقتها أن كوني برداً و سلاماً على إبراهيم و لم يتفق مع النار من قبل! بل إن الأمر للبحر أن إذا ضربك موسى إنفلق من قبل أن يصل إليه سيدنا موسى يتنافى مع العزة الإلهية من حيث إحتياج الأمر لترتيب أو وقت للتنفيذ بل تتحق العزة الإلهية وطلاقة القدرة بتحقق الأمر فور صدوره (أو فور تحقق المشيئة الإلهية بالأمر) و لا يحتاج أمر ملك الملوك أي ترتيب لتحققه اللهم إلاّ إصدار الأمر ذاته {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء/21] فسبحان الله. أما رواية أن البحر قد إضطرب ليلتها لا يعلم أين يضربه موسى فهي غير مقنعة لي - إذ أن الأمر هو "إذا ضربك موسى إنفلق" و هو ما يعني أن يكون الإنفلاق موقع الضربة بالعصا - فعلام يريد البحر أن يعرف أين سيضربه موسى!؟ هل تبقت لنا دروس مع هذه الأية؟ بالتأكيد! إن حرفاً واحداً في كتاب الله لا يسعه الزمان تفسيراً و شرحاً و درساً و إستفادة و بقي عندي ما أظن بعضه ينفع القارئ وبعضه لا ينفع إلا الكاتب و لعل الله يرزقني به خيراً. -------------------------------------- *) دراسة خاصة و مجهود شخصي و ليست تفسيراً أو تأويلاً - وهي تحتمل الخطأ أكثر من إحتمال الصواب - فأنا أهتم بالجانب الخاص باللغة المستخدمة لفهم المعنى. **) لا أعلم لم أراد الغبي فرعون اللحاق بسيدنا موسى بعد أن عرف أن كل هدفه هو أن يرسل معه بني إسرائيل؟ لعل الله أن يفتح عليّ أو على غيري بشرح و تفسير. Masry in USA