فى العراقوسوريا تم اغتصاب عشرات الآلاف من النساء والفتيات من المسيحيات واليزيديات والكرديات والأشوريات، وطرد مئات الآلاف من أراضيهم بحيث إن مناطق مسيحية وكردية ويزيدية وأشورية طهرت بالكامل من سكانها بعد سيطرة داعش عليها، وأعدم عشرات الآلاف بتهم مختلفة، وأجبر مئات الآلاف على دفع الجزية، ودفن مئات الشباب والصبية في مقابر جماعية، ومع ذلك تتحفظ الحكومة البريطانية وحزب المحافظين الحاكم على تصويت مجلس العموم البريطاني على مشروع قرار يصف هذه الجرائم التي ترتكبها داعش ب"إبادة جماعية" مما أدي إلى انقسامات في البرلمان، فقرار اعتبار جرائم داعش في العراقوسوريا "إبادة جماعية" من شأنه إذا ما تم التصديق عليه أن يفتح الباب أمام رفع ملف جرائم داعش إلي المحكمة الجنائية الدولية. فلماذا تدعم غالبية أعضاء حزب العمال المعارض ونواب آخرين من أحزاب مثل "الخضر" و"الأحرار الديمقراطيين" و"القومي الأسكتلندي" وبعض النواب من حزب المحافظين الحاكم مشروع القرار، بينما تتحفظ عليه الحكومة البريطانية بزعامة ديفيد كاميرون والكثير من نواب حزب المحافظين الحاكم، بل وتضغط الحكومة على نوابها في البرلمان لمعارضة الخطوة؟. يقول حزب المحافظين وأعضاء بارزون في الحكومة البريطانية إنهم يعترفون بأن الجرائم المرتكبة ضد الأقليات االعرقية والدينية في سورياوالعراق هى "إبادة جماعية"، لكن هذا وحده لا يزيل تحفظهم الأساسي وهو عدم تفضيل خروج قرار بهذا المعنى من البرلمان (هيئة تشريعية)، مفضلين أن يصدر القرار من هيئة قضائية. ويقول توبياس الوود وزير الدولة البريطاني لشئون الشرق الأوسط والنائب في البرلمان عن حزب المحافظين في هذا الصدد إنه يعتقد أن داعش مارست أعمال إبادة جماعية ضد الأقليات العرقية في العراقوسوريا، وإن هذه الأقليات عانت "هجمات منهجية ومنظمة مروعة" على يد داعش، لكنه برغم هذا الاعتقاد يرى أن توصيف الإبادة الجماعية هو "مسألة قانونية" وليست "رأيا سياسيا" يصدر من البرلمان، وأن السلطات القضائية المختصة هى الأصلح لقرار من هذا القبيل. لكن هذا المنطق لا يبدو مقنعا بما يكفي للكثير من النواب في مجلس العموم. فالنائبة فيونا بروس التي تقدمت بالطلب للبرلمان لاعتبار جرائم داعش ضد الأقليات في العراقوسوريا جريمة "إبادة جماعية"، وتنتمي لحزب المحافظين الحاكم، تعارض بشدة موقف كاميرون والحزب الرافض للخطوة، معتبرة أن تصويت مجلس العموم البريطاني لصالح القرار سيشكل ضغطا إضافيا على المحكمة الجنائية الدولية كي تفتح ملفا حول الجرائم المروعة في العراقوسوريا بهدف ملاحقة ومحاسبة المتورطين فيها. وفي القانون الدولي فإن جريمة الإبادة الجماعية تشير إلي "الجرائم التي ترتكب بهدف التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو عرقية أو لونية أو دينية". ومنذ دخل المصطلح معجم القانوني الدولي عام 1948، أرتكبت جريمة الإبادة الجماعية في عدد كبير من الحالات وفي غالبية مناطق العالم، من رواندا إلي البوسنة ومن دارفور في السودان إلي العراق، إلا أن دول العالم، خاصة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن كثيرا ما قاومت استخدام الإبادة الجماعية لوصف هذه الجرائم وفقا لمصالحها السياسية. فمثلا قاومت روسيا وصف جرائم الصرب ضد مسلمي البوسنة بالإبادة الجماعية. وينص مشروع القرار الذي تقدمت به بروس إلي مجلس العموم على اعتبار أن اليزيديين والمسيحيين والآشوريين وأقليات عرقية ودينية أخرى في العراقوسوريا يواجهون خطر الإبادة الجماعية على يد داعش. ويحض مشروع القرار الحكومة البريطانية على إحالة الجرائم فورا إلي مجلس الأمن الدولي المدعو بدوره لإحالة القضية للمحكمة الجنائية الدولية من أجل تقديم الجناة للعدالة. ورغم تحفظات الحكومة وحزب المحافطين على مشروع القرار، تأمل بروس أن يكون دعم عدد كبير من النواب لصالح القرار دافعا للحكومة لتغيير موقفها. ومثلما يعاني مجلس العموم البريطاني انقساما بشأن مشروع القرار المقترح، رفض مجلس اللوردات قبل نحو شهر قرارا مماثلا يعتبر جرائم داعش في العراقوسوريا "إبادة جماعية" بأغلبية 148 صوتا مقابل 111 صوتا. هذا الرفض المزدوج من مجلس اللوردات ومن الحكومة البريطانية وأعضائها في البرلمان فتح الباب لتفسيرات أخرى عديدة بخلاف الحجة الرسمية الممثلة في رفض مبدأ تدخل البرلمان في قرار هو بطبيعته قضائي. ومن هذه التفسيرات أن اعتراف الحكومة البريطانية بجرائم إبادة جماعية ضد الأقليات في العراقوسوريا يلزم الحكومة قانونيا وأخلاقيا بفتح أبواب بريطانيا واستقبال مئات الآلاف من اللاجئين بموجب القانون الدولي الإنساني. وهناك مشروعات قرارات طرحت في مجلس اللوردات بالفعل لتعديلات في قانون الهجرة تقضي باعتبار الأقليات المهددة بالإبادة الجماعية، مستوفين لشروط اللجوء السياسي بحيث يسمح لهم بالدخول والبقاء في بريطانيا على أن تقرر المحكمة العليا لاحقا ما إذا كانت الانتهاكات التي تعرضوا لها ينطبق عليها توصيف الإبادة الجماعية. التفسير الثاني لتحفظ الحكومة على تصديق البرلمان على مشروع القرار هو أن الاعتراف بوجود جرائم إبادة يقتضي ربما تحركا دوليا قد يتمثل في إرسال قوات على الأرض في سورياوالعراق أو تعزيز الهجمات الجوية وتوسيع نطاقها وتوفير مظلة حماية للسكان عبر مناطق منزوعة السلاح ومناطق آمنة. وخيار التدخل البري ترفضه الدول الغربية كليا، أما توفير مناطق آمنة منزوعة السلاح فهو صعب ومعقد من حيث الترتيبات السياسية والإستراتيجية. التفسير الثالث، يمكن تلخيصه في كلمة واحدة وهى تركيا. فأنقرة اتفقت مع الاتحاد الأوروبي على تشديد القيود على حدودها لمنع المزيد من اللاجئين. كما وافقت على استقبال آلاف اللاجئين من اليونان الذين ترفض أوروبا استقبالهم. هذا المستوى من التنسيق والتفاهم الأوروبي- التركي يعكس تحسنا نسبيا في العلاقات بين أنقرة وأوروبا بعد فترة توترات وخلافات. وآخر شىء تريده الدول الأوروبية هو إعادة أجواء التوتر عبر توصيف ما يحدث للأقليات في العراقوسوريا بجريمة إبادة جماعية. فتركيا أولا لديها حساسية كبيرة وتاريخية من كلمة "إبادة جماعية" التي استخدمت لوصف جرائمها ضد الأرمن في مطلع الحرب العالمية الأولى عام 1915. كما أن الأقليات التي يفترض ان يحميها القرار تتضمن اليزيديين والأكراد (هناك تنسيق وتقارب بينهما)، الذين تعاديهم أنقرة وتعتبر الأجنحة العسكرية للأكراد منظمات إرهابية. أما التفسير الرابع فهو أن جريمة الإبادة الجماعية لا يجب، كما ترى لندن أن تصبح سهلة الاستخدام أو يتم تسييسها. فهى تتطلب عبء الإثبات القانوني وفق معايير صارمة بحيث تمنع دولا مثل تركيا أو صربيا من إنكار ما قامتا به ضد الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى، أو مسلمي البوسنة في التسعينيات أوالتعلل بأن تهمة "الإبادة الجماعية" كانت مدفوعة بأهداف سياسية. وتقول الحكومة البريطانية إن موقفها الثابت هو "أنه ليس من وظيفة الحكومات تسمية جرائم ما إبادة جماعية، خاصة إذا كانت ما زالت تحدث على الأرض وأن هذا دور الهيئات القضائية الدولية وليس الدول"، موضحة أنه طالما ما زال الصراع مستمرا، فإن توصيف الجرائم قد يتم استغلاله سياسيا. لكن أكبر حلفاء لندن، وهى أمريكا لم تتردد مثلا في وصف جرائم دارفور بإبادة جماعية، بينما كانت المذابح ما زالت مستمرة على الأرض. وتتزايد الضغوط على بريطانيا خاصة بعد اعتبار البرلمان الأوروبي جرائم داعش ضد الأقليات في العراقوسوريا "إبادة جماعية" في فبراير الماضي، واتخاذ الخارجية الأمريكية ومجلس النواب الأمريكي الموقف نفسه في مارس الماضي. ضحايا جرائم داعش في سورياوالعراق لا يحتاجون إلي تسمية الجرائم "إبادة جماعية" كي يشعروا بآثارها المدمرة على حياتهم وقراهم ومدنهم، ولا يحتاجون أيضا إلي اعتراف دولي رمزي بذلك. فداعش نفسها بأيديولوجياتها وبياناتها وممارساتها اليومية تعترف بأن ما ترتكبه هو إبادة جماعية. لكن القرار، إن صدر، قد يؤدي إلي رفع ملف الانتهاكات الجسيمة إلي المحكمة الجنائية الدولية. ومع أن داعش وعناصرها، الذين يفجرون أنفسهم باسم أيديولوجية مريضة، لن يرتعبوا خوفا من خطوة محاكمتهم أمام المحكمة الجنائية، لكن اعتقالهم وإجبارهم على المثول أمام القضاء بوصفهم مجرمين وقتلة وإزالة إي غلالة ما زالت باقية حول وجههم الحقيقي، وسماع شهادات الناجين من جرائهم من الفتيات والنساء والشباب والصبية وتوثيق ذلك، سيكون الوجه الوحيد للعدالة الذي يأمله ضحايا جرائمهم.