"نحن نقرأ لنبتعد عن نقطة الجهل لا لنصل إلي نقطة العلم".. جملة تبدوا قصيرة من حيث حساب كلماتها، لكن مضمونها يحوي كثيرًا من المعاني واسعة الأفق تتدلي أمام صاحبها ومن يعي قدرها كالذهب، كلمات مقتضبة تعبر عن حال أمة يقترب أغلبها من نقطة الجهل، عبر خلالها عباس محمود العقاد، التي تتزامن ذكري وفاته ال 52 اليوم، عن وضع عالمنا العربي الذي يعاني واقعا متأزما في القراءة أدناها متابعة شئونه وقضاياه . لم يعش عالمنا هذا لكنه عبر عنه في مقالة له جاءت بعنوان "محاكمة الجيل الجديد" كتب خلالها :إن الجيل الحالي أوفر من الأجيال الماضية نصيبا من المعرفة، وأيضا أوفر منها نصيبا من حرية الرأي واستقلال التفكير، والأجيال الجديدة في الزمن الماضي كانت مع قلة نصيبها من العلم أقدر على حل مشكلاتها، وأعرف بظروفها من الجيل الجديد في العصر الحاضر، ذلك لأن علمها على قلته كان كافيا لمواجهة مشكلاتها، على خلاف جيلنا الجديد في عصرنا هذا لأن مشكلاته كان أضخمها حظه من التعليم، وتطرق بالقول قائلا " فليعصم الجيل الجديد نفسه من الغرور لأنه ظلام يحجب حقائق الأشياء، وليخرج إلى النور مفتوح العينين فيرى الطريق السوي". تبوأ العقاد مكانة عالية في النهضة الأدبية الحديثة ندر من نافسه فيها، فهو يقف بين أعلامها، يعد أحد أقطاب الفكر والأدب في العالم العربي في عصره، كان من أهم المدافعين عن الإسلام والوطن ويتجلى ذلك في أعماله الكثيرة التي تناول فيها عظماء الإسلام في سلسلته الشهيرة "العبقريات" التي نالت حظها الوافر بين القراء، وكان صاحب نظرية في الشعر تقوم علي مراعاة الصدق، وتحقيق الوحدة العضوية، والتعبير عن الذات والاهتمام بالعقل والفكر إلي جانب القلب والعاطفة، فاستحق بذلك لقب عملاق الأدب العربي. ويعد العقاد من مجددي الشعر في النهضة الأدبية الحديثة، وعرف هو وصديقاه الشاعران المازني وعبد الرحمن شكري بأنهم أصحاب مدرسة "الديوان"، وأصدر العقاد نحو عشرة دواوين من الشعر، منها "وحي الأربعين"، كما أن له العديد من الدراسات والبحوث في كافة المجالات الأدبية والاجتماعية والسياسية، وفي عام 1956م تمَّ اختياره عضوًا "بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب"، وفي عام 1960م كرمته الدولة فمنحته "جائزة الدولة التقديرية للآداب" تقديرًا منها لجهوده في مجال الفكر والأدب . ولد العقاد في محافظة أسوان في 28 يونيو لعام 1889، اقتصرت دراسته على المرحلة الابتدائية فقط، لعدم توافر المدارس الحديثة في محافظة أسوان، حيث ولد ونشأ هناك، كما أن موارد أسرته المحدودة لم تتمكن من إرساله إلى القاهرة، كما يفعل الأعيان في ذلك الوقت، واعتمد على ذكائه الحاد وصبره على التعلم والمعرفة حتى أصبح صاحب ثقافة موسوعية لا تضاهى أبدًا، ليس بالعلوم العربية فقط وإنما العلوم الغربية أيضًا، حيث أتقن اللغة الإنجليزية من مخالطته للسياح المتوافدين على محافظتي الأقصروأسوان، مما مكنه من القراءة والإطلاع على الثقافات البعيد. اتجه إلى العمل بالصحافة مستعينا بثقافته وسعة إطلاعه، فاشترك مع محمد فريد وجدي في إصدار صحيفة الدستور، وكان إصدار هذه الصحيفة فرصة لكي يتعرف العقاد بسعد زغلول ويؤمن بمبادئه، وتوقفت الصحيفة عن الصدور بعد فترة. بعد أن عمل بالصحافة، صار من كبار المدافعين عن حقوق الوطن في الحرية والاستقلال، فدخل في معارك حامية مع القصر الملكي، مما أدى إلى ذيع صيته واُنْتخب عضوًا بمجلس النواب. عرف عنه أنه موسوعي المعرفة، فكان يقرأ في التاريخ الإنساني والفلسفة والأدب وعلم النفس وعلم الاجتماع، بدأ حياته الكتابية بالشعر والنقد، ثم زاد على ذلك الفلسفة والدين، دافع في كتبه عن الإسلام وعن الإيمان فلسفيا وعلميا ككتاب الله وكتاب حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، ودافع عن الحرية ضد الشيوعية والوجودية والفوضوية (مذهب سياسي)، كتب عن المرأة كتابا عميقا فلسفيا اسمه هذه الشجرة، يعرض فيه المرأة من حيث الغريزة والطبيعة وعرض فيه نظريته في الجمال. وأبرز ما كتب عن المرأة والحب :" إذا ميز الرجل المرأة بين جميع النساء، فذلك هو الحب، وإذا أصبح النساء جميعاً لا يغنين الرجل ما تغنيه امرأة واحدة، فذلك هو الحب، إذا ميز الرجل المرأة لا لأنها أجمل النساء، ولا لأنها أذكى النساء، ولا لأنها أوفى النساء، ولا لأنها أولى النساء بالحب، ولكن لأنها هي هي بمحاسنها وعيوبها؛ فذلك هو الحب". تُرجمت بعض كتبه إلى اللغات الأخرى، فتُرجم كتابه المعروف "الله" إلى الفارسية، ونُقلت عبقرية محمد وعبقرية الإمام علي، وأبو الشهداء إلى الفارسية، والأردية، والملاوية، كما تُرجمت بعض كتبه إلى الألمانية والفرنسية والروسية . وكتب العقاد عشرات الكتب في موضوعات مختلفة، في الأدب والتاريخ والاجتماع، وكتب في الدراسات النقدية واللغوية مؤلفات كثيرة، وله في السياسة عدة كتب أيضًا، وتجاوزت مؤلفات العقاد الإسلامية أربعين كتابًا . كان العقاد عاشقا للقراءة وعبر عن ذلك في كتابات عدة أبرزها :"كلا.. لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لازداد عمراً في تقدير الحساب.. وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة، والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب ". قال عنه الزعيم الراحل سعد زغلول: "أديب فحل، له قلم جبار، ورجولة كاملة، ووطنية صافية، واطلاع واسع، ما قرأت له بحثًا أو رسالة في جريدة أو مجلة إلا أعجبت به غاية الإعجاب". وبعد هذا الإرث الضخم الذي تركه لنا عملاق الأدب العربي، رحل عن عالمنا عباس العقاد في مارس عام 1964، لكن لم ترحل معه كتاباته التي مازالت وستظل ذخرا لعطشي الثقافة، وملاذا لحيري الفكر، ومصدر إلهام لمن يسلكون دربه.