كاد القدر أن يلعب لعبة ساخرة مع المفكر الإسلامي السوداني حسن الترابي، الذي رحل عن عالمنا اليوم السبت، عن عمر يناهز 84 عاما. هذه اللعبة، التي لو تمت لصارت نادرة من نوادر التاريخ، هي أن يموت الترابي بقانون وضعه هو بنفسه. الترابي الذي ولد عام 1932، وتخرج في كلية الحقوق عام 1955، ليحصل على الدكتوراه في السوربون عام 1964، انضم إلى جبهة الميثاق ذات التوجه الإسلامي، ليتقلد الأمانة العامة عام 1964، أي قبل خمسة أعوام فقط من انقلاب جعفر النميري على السلطة، حيث اعتقل قيادات الجبهة. بعد سنوات من التقارب والتباعد مع السلطة، قام حزب الترابي بانقلاب على حركة المهدي عام 1989 ليقوموا بتنصيب الرئيس الحالي عمر البشير. الأمور لم تتوقف عند هذا الحد، فلم يكن هذا الانقلاب مجرد انقلاب على السلطة كغيره من الانقلابات، إنما كان بمثابة نقطة تحول في تاريخ السودان الحديث، نقطة تحول أعادتها إلى الخلف عدة قرون، وفتحت الباب لمزيد من دعوات التخلف والرجعية، والاستبداد السياسي. عام 1983 فرض جعفر النميري ما يسمى بقوانين الشريعة الإسلامية، ملغيا بذلك الحكم بالقانون السوداني، الذي يرجع لعام 1925، لتستند الأحكام القضائية على ما ورد في كتب الفقهاء من أحكام، وعلى بعض الأحكام الوضعية، المستقاة من هذه الكتب أيضا، والتي تناسب هذه الطرق في عقاب الخارجين على النظام. لم يشأ الترابي أن تقف الأمور عند هذا الحد، ليأتي تعديل 1991 على قانون العقوبات، فبالإضافة لقطع يد السارق، وغيرها من العقوبات التي عرفها صدر الإسلام، أقر الترابي الحد المسمى بحد الرد، وهو الحد الذي يقضي بأن يستتاب المرتد عن الدين لفترة يحددها القاضي، ثم يقتل إن لم يرجع. هذا بالإضافة إلى مزيد من التضييق على الحريات، ليسمح لرجال الشرطة باقتياد أية سيدة إلى أقسام الشرطة بحجة أنها لا ترتدي زيا محتشما، هذا القانون الذي عرض مئات السودانيات للجلد بتهم واهية، مطاطة، وغير محددة. فتح حد الردة الباب لتوحش السلطة السياسية؛ ذلك أن أي معارض بات مهددا بالإعدام إذا ما أرادت السلطة ذلك، ويكفيها فقط أن تتهمه بالردة. هذه القوانين أقرت في وجود الترابي، حينما كان معلوما ضمنيا أنه هو الحاكم الفعلي للسودان، ولم يعترض عليه على الإطلاق. ولكن في السنوات الأخيرة لحياة الترابي، خرج صاحب "المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع"، خرج بفتاوى أثارت الكثير من الجدل، هذه الفتاوى التي تخص الخمر، وتخص المرأة، وتخص حد الردة أيضا. فمن بين فتاواه، أو اجتهاداته، أن شارب الخمر لا يعاقب على فعل شرب الخمر ذاته، وإنما يعاقب إذا ما اعتدى على إنسان بسبب الخمر، أما بالنسبة للمرأة فقد رفض الترابي ما يسمى بالحجاب، وذهب إلى أنه فرض على نساء النبي دون سواهن، وأن ما يفترض تغطيته هو فتحة الصدر، التي يشير الإسلام إليها ب"جيوبهن". كما أنكر الترابي، وبشكل عجيب كلا من حدي الردة والرجم للزاني، هذه الفتاوى وغيرها التي أهاجت الدنيا عليه. خرج عدد من رجال الدين في العديد من الدول العربية مطالبين بالحكم بزندقة وردة الترابي، الأمر الذي يترتب عليه إعدامه، ليقضي الترابي سنواته الأخيرة محكوما عليه بالإقصاء، متهما بالردة، مطلوب دمه. ويموت اليوم الترابي، مخلفا وراءه ثأرا مع قوانين أقرها وأحياها بعد موات، قوانين تستند على ثابت لا يتغير، لا تتبدل ولا تزال إلا بالدماء، ولكنها لم تكن دماء الترابي.