برحيلهما فقدت الدراما الإذاعية عصرا كاملا من الإبداع، وأصبحت مهددة بالضياع والاندثار، لكن ذاكرة المصريين لن تسقط بسهولة، أعمالا خالدة لطالما استمتعوا بها على موجات الأثير.. إنهما الرائدان الإذاعيان يوسف الحطاب ومحمود السباع، حيث تصادف هذه الأيام ذكرى رحيلهما. المخرج الإذاعى يوسف الحطاب الذى صادف الأمس الذكرى الثانية لرحيله، لا يقترن اسمه إلا مع جواهر الإذاعة الخالدة التى استطاعت أن تحفر لذاتها مكانا فى الوجدان المصرى، عبر إخراجه للعشرات من المسلسلات الإذاعية مثل "سمارة" و"القط الأسود" و"أبو الحسن العبيط" و"أدهم الشرقاوى". استطاع الحطاب المولود فى القاهرة بتاريخ 22 إبريل عام 1922، أن يثبت ريادته منذ اليوم الأول الذى التحق فيه بالإذاعة المصرية عام 1948، فقد كان المخرج الأول فى تاريخ الإذاعة الذى يقدم الأعمال الدرامية فى شكل حلقات مسلسلة تذاع على مدار شهر كامل. نجح من خلال هذه التجربة فى تقديم ألمع النجوم إلى المصريين من خلال الراديو قبل أن يتعرفوا عليهم فى السينما، فمسلسل "سمارة" الذى كان يذاع فى تمام الساعة الخامسة والربع مساءا خلال منتصف الخمسينيات، كانت تترقبه الأسر بشغف بالغ، لدرجة بدت معها شوارع القاهرة خالية من المارة، فالجميع كان يلتف حول الراديو لمتابعة أحداث المسلسل الذى أدى بطولته محسن سرحان وسميحة أيوب ومحمود اسماعيل "المعلم سلطان" وقد استثمر الحطاب نجاح هذا المسلسل، ليقدمه خلال السينما عام 1957. سبق الحطاب الجميع من خلال تقديم "الأكشن" عبر أثير الإذاعة ومسلسل "القط الأسود" خير مثال على هذا، فالمسلسل يتناول حياة العصابات التى تهدد حياة الأسر المصرية وصراعتها مع رجال البوليس فى إطار درامى شيق أداه كبار النجوم مثل محمود المليجى وعمر الحريرى وتوفيق الدقن، كما حقق مسلسله الإذاعى الفكاهى "أبو الحسن العبيط" للفنان إسماعيل يس نسبة استماع قياسية فى تاريخ الإذاعة، لما للفنان الكبير من حضور كوميدى طاغ لدى المصريين. نجح الحطاب فى أن ينقل الإذاعة المصرية الوليدة التى أرسلت أول بث إذاعى لها فى 31 مايو 1934 إلى العالمية حين قدم برنامجه الشهير "46120 إذاعة" ونقلت فكرته إذاعتا لندن وبرلين، لتنقله عنهما سائر المحطات الإذاعية وهو عبارة عن برنامج يدور فى إطار قصة درامية أو بوليسية، تتضمن سؤالا فى آخر الحلقة، تُقدم عليه جوائز للمستمعين الذين يتمكنون من الإجابة عليه. الصور الغنائية أيضا، كانت حاضرة فى مسيرة الحطاب، فكان أول من قدم صورا غنائية فى شكل حلقات مسلسلة فى عمله الإذاعى الأول "بنات بحرى" الذى بثته إذاعة الإسكندرية والذى كتبه الشاعر بيرم التونسى وقامت حورية حسن بأداء البطولة الغنائية وهناك أيضا، الأوبريتات الغنائية مثل أوبريت "ألف ليلة وليلة" الذى أدى بطولته الدرامية فؤاد شفيق وحسن البارودى وشفيق نور الدين ومحمد السبع، فيما أدى البطولة الغنائية شهرذاد وكارم محمود وسيد إسماعيل. الملاحم الغنائية كان لها نصيبها الوافر من إبداعات الحطاب، مثل مسلسل أدهم الشرقاوي الذي قام الفنان محمد رشدي بأداء بطولته الغنائية وهناك ملحمة "أيوب المصري" للشاعر زكريا الحجاوى وبطولة أمينة رزق وزوزو نبيل وكرم مطاوع وأدى بطولته الغنائية كل من خضرة محمد خضر ومحمد طه. بيد أن عمله الدينى الخالد "أحسن القصص" جاء على رأس صدارة روائعه، فالمسلسل الذى ألفه الأستاذ محمد على ماهر من وحى قصص القرآن الكريم وقدمه الحطاب على مدى 25 عاما خلال شهر رمضان واستطاع أن ينال استحسان المصريين الذين ربطوا بينه وبين الشهر الكريم طيلة سنوات وسنوات. تولى الحطاب منصب وكيل وزاره الإعلام ،ورئيس مجلس ادارة معاهد تدريب الإذاعه والتلفزيون وكان أستاذ مادة الإذاعة في المعهد العالي للفنون المسرحية ونال وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، تقديرا لأعماله الخالدة وفى 26 فبراير عام 2014 طويت صفحة الإبداع الإذاعى بوفاة الحطاب عن عمر ناهز 92 عاما. أما الرائد الإذاعي والفنان الشامل محمود السباع الذي ولد في الرابع والعشرين من يناير عام 1911، فقد كان في طليعة المخرجين الإذاعيين الذين شكلوا عماد الأعمال الدرامية في الإذاعة المصرية بصور غنائية مثل "معروف الإسكافي" وأوبريت "شهرزاد" الذى ألفه بيرم التونسي ولحنه فنان الشعب سيد درويش وتولى توزيعه الموسيقي، الموسيقار محمد حسن الشجاعي وشارك بالغناء فيه فايدة كامل وإبراهيم حمودة وحورية حسن. وكان السباع من أوائل المخرجين الإذاعيين الذين أخرجوا المسلسلات الإذاعية القصيرة التي تبلغ مدتها نصف ساعة، مثل مسلسل قصة الغار وهى من أشعار محمود حسن إسماعيل وتلحين الموسيقار محمود الشريف وفؤاد الظاهري وغناء إسماعيل شبانة ونازك والثلاثي المرح وبطولة عبد المنعم إبراهيم وسعيد أبو بكر وعبد الرحيم الزرقاني ومحمد السبع. ومن باب الإذاعة، شق السباع طريقه إلى السينما ليثبت أنه فنان من طراز رفيع، فقد أجاد تقديم أدوار الشر على الشاشة الكبيرة، مستغلا بذلك قسمات وجهه العنيفة ونظرات عينه الحادة وصوته الجهورى، فظهر فى دور "التاجر المفلس" فى فيلم الفتوة مع وحش الشاشة فريد شوقي وتحية كاريوكا وزكى رستم عام 1957، والفلاح المتآمر فى فيلم "حسن ونعيمة عام 1959 ودور زعيم المنافقين "عبد الله بن أًُبَى بن أبى سلول" فى رائعة "الرسالة" لمصطفى العقاد عام 1976 ودور "سباخ الدجال" الذي يستغل بلاهة البسطاء في "البيضة والحجر" مع الفنان أحمد زكى عام 1989. أما خشبة المسرح، فقد وقف عليها السباع مبكرا حينما قرر الانضمام لفرقة زكى طليمات ليقدم روائع مسرحية لكبار المؤلفين لا تقل إبداعا عن أعماله الإذاعية والسينمائية مثل "هاملت" و"ترويض الشرسة" لوليم شكسبير و"أهل الكهف" لتوفيق الحكيم و"قنديل أم هاشم" ليحيى حقي. وبالرغم من أدوار الشر التي تركت بصمته فى السينما، تولى السباع، إدارة المسرح الكوميدي خلال فترة الستينات، حين انتعشت فرق مسرح التليفزيون التى أوجدها عبد المنعم مدبولى لتنافس الفرق المسرحية الشهيرة مثل إسماعيل يس وفؤاد المهندس وفرقة رمسيس ليوسف وهبي وحصل السباع على جائزة الجدارة من أكاديمية الفنون تقديرا لمسيرته الإبداعية الخالدة. وتوفى السباع في 27 فبراير عام 1989 بعد حياة حافلة من الإنجازات الفنية عن عمر ناهز 78 عاما.