رحم الله جدتى، قالت يوماً نار الحى حية، كلما رن فى أذنيها صوت جارتنا فى البلدة وهى تنعى اختفاء طفلها فى مولد السيد البدوى، وراح بلا رجعة، لم أدرك ما كانت تقولة حتى روت مقولتها فى أذنى عندما شاهدت تلك الأم المكلومة والأب البائس يفترشان الرصيف أمام مبنى نيابة البساتين وأصوات بكائهما تفزع الطير المحلق فى السماء، بعد اختفاء فلذة كبدهما منذ أحداث ما بعد ثورة 25 يناير، وكأن الأرض انشقت وابتلعتها ولم اسمع يوماً عن امرأة تتمنى موت ضناها إلا تلك الأم المكلومة عندما رفعت يديها إلى السماء وتوسلت للمولى عز وجل أن تعود اليها حبيبتها حتى لو جثة هامدة، حتى تنطفئ النيران المتوهجة فى صدرها. المشهد أقسى من أن يوصف، رائحة الحزن تفوح من الأبوين المكلومين، تحولا إلى هيكل عظمى، وجفت ينابيع مياه حياتهما، لم تنفتح أفواهما حتى لكسرة خبز، يغيبا عن الوعى ثم يعودا ثانية للحياه عندما تتراءى لهما صورة بسمة، تلك الطفلة الجميلة ذات الأربعة عشر ربيعاً، لم يخرجا من الدنيا إلا بها، حتى استكتر القدر عليهما من كانت تضيئ عتمة حياتهما وراحت إلى حيث لا يعلمون. مشهد الأبوين يفتت الصخر ويهز الجبال الراسيات، بكاء ونواح وعويل وبحلقة فى خلق الله وهرولة خلف السيارات بحثاً عن حبيبة القلب. القلوب تعتصر والشفاه ترتعد ولانملك لهام سوى الدعاء، الأم تنادى على صغيرتها بأعلى صوتها بينما الأب جمع تراب الشارع على رأسة وجسدة وفى لمح البصر تبدل حال الأسرة الصغيرة وتوجعت القلوب اقتربت من الأب الثكلى، بعد أن غابت الأم عن الوعى وربت على كتفة ودعوت له بالصبر وعودة الحبيبة الغائبة وسألته عن أصل الحكاية، وكيف تاهت البسمة، فقال إن صغيرتة توجهت يوم 9 فبراير عام 2011 إلى مدرستها صباحا لدفع المصروفات الدراسية للنصف الثانى من العام الدراسى فقد كانت فى الصف الإعداداى الثانى وحدثتها على تليفونها المحمول عندما وصلت إلى المدرسة الكائنة بمنطقة مساكن صقر قريش، ثم حدثتنى بعد أن دفعت المصروفات، وحدثتنى مرة ثالثة عندما استقلت سيارة مكروباص وقالت إنها عائدة إلى المنزل، ومرت ساعة بعد مكالمتها ولم تعد. اتصلت بكل أقاربنا وجيراننا وصديقاتها دون جدوى، رغم علمى أن بسمه لا تحب زيارات الأقارب والزملاء، وتفضل الخروج بصحبتى ووالدتها، ومرت الساعة تلو الأخرى وخرج معنا جميع من يعرفنا للبحث عن بسمه، سألنا كل سائقى الميكروباص، وطرقنا أبواب جميع شقق منطقة البساتين والمنطاق المجاورة وجميع المستشفيات، حتى أقسام الشرطة طرقنا أبوابها، لكن بسمه كأنها فص ملح ودابت فى نهر النيل. وشرد الأب المكلوم بضع دقائق وقال: بسمه متفوقة فى دراستها ومحبوبة من كل مدرسيها، وكانت اسما على مسمى، البسمة دائماً تعلو وجهها البرئ، لم أسمع منها غير كلمتى حاضر ونعم، وشهادة كل أهالى المنطقة بحسن التربية ودماثة الخلق، كانت كالبدر الذى يضيئ عتمة حياتنا، وكانت السند والفرحة رغم صغر سنها. كانت تدرك ظروفى المادية، فأنا موظف بسيط ووالدتها ربه منزل طلبت من شراء جهاز كمبيوتر وملابس على الموضة مثل زميلاتها، وعندما اخبرتها بضيق ذات اليد قبلت يدى ورأسى واعتذرت فى حياء وكأنها ارتكبت جرماً كبيرا،ً رغم صغر حجمها وعمرها كانت تساعد والدتها فى الأعمال المنزلية أيام الإجازات وتذهب معها إلى السوق، لمشاركتها فى حمل حقائب الخضار، شئ ما بداخلى كان يدفعنى للخوف عليها، لكن من ماذا لا أعلم ولم يدر بخلدى أن القدر يخبئ لى ما تنوء عن حملة الجبال الراسيات، موتها أهون بكثير أتمنى أن أعثر عليها، ولو جثه هامدة كى أرويها بيدى خلف الثرى ويحكى شاهد قبرها قصة رحيلها وعودتها بدون أنفاس، حقاً الموت أهون بكثير من أشياء أقسى ألف ألف مرة منه، لم يدر بخلدى أنه سوف يأتى اليوم الذى أتمنى فيه الموت لطفلتى الوحيدة، سيكون يوم عيد يوم عندما أعثر عليها ميتة، يارب أسالك الرحمة أنا لم أرتكب جرماً أنال عليه هذا الجزاء. سألته عن قيامه بتحرير محضر ومصير المحضر الذى حرره، فرد على بصرخة زلزلت كيانى وكادت تفتك بقلبى أنه حرر محضرا بقسم شرطة البساتين، وأحيل بلاغة إلى النيابة العامة واستمعت النيابة برئاسة محمد عبدالمنعم إلى أقواله هو وزوجتة، وطلبت النيابة تحريات المباحث، وطوال ما يقرب من 3 أشهر مازالت المباحث تعمل التحريات، وأبلغنى أنه كان يتردد على النيابة كل يوم، وعندما ضاق من كثرة الوعود خلع ملابسة لاعتراضة على غياب الأمن وعدم قيامه بأى دور فى البحث عن طفلتة، وعندما ضاقت أمامه كل السبل افترش الرصيف هو وزوجته أمام النيابة، لعل أحد من أفراد الشرطة يرق قلبة لحالهما ويتبرع بالبحث عن الحبيبة الغائبة.