لم تكن فاتن حمامة لترضى أن تظل الطفلة، حتى لو كانت معجزة، ولم تكن لتظهر على شاشة السينما، دون أن يلاحظ ذلك «صانع النجوم» المخرج والفنان يوسف وهبي، الذى شاهدها فى فيلم «رصاصة فى القلب»، فطلبها على الفور للعمل معه فى فيلم «ملاك الرحمة» من تأليفه وإخراجه، والذى شاركته بطولته راقية إبراهيم أيضا، ومعهم نجمة إبراهيم، بشارة واكيم، زوزو شكيب، سراج منير، وفريد شوقي، لتقوم فيه بدور ابنة يوسف وهبى وراقية إبراهيم، ليشركها يوسف وهبى أيضا فى فيلمه التالى «القناع الأحمر» عام 1947، ومعهما كاميليا، زوزو نبيل، بشارة واكيم، عبد السلام النابلسي، لتكتب عنها الصحف مؤكدة أن هناك ممثلة موهوبة، تنبئ بمشروع نجمة على الطريق. بعد الفيلم الثالث، كان لابد أن تترك العائلة المنصورة وتنتقل إلى القاهرة، حيث قام والدها باستئجار مسكن للأسرة فى شارع "إسماعيل أبو جبل" بحى الناصرية، وعندما زاد دخل الأسرة، التى أصبحت تضم إلى جانب منير وفاتن، شقيقين آخرين هما "ليلى ومظهر"، انتقلوا للإقامة بحى الدقى، وتلتحق بمدرسة "الأميرة فوقية الثانوية" بالجيزة، لتبدأ مرحلة جديدة من حياتها، الممتلئة بالكثير من "الشقاوة والبراءة"، وسط زميلاتها المراهقات، تلك المرحلة التى ربما منعتها شهرتها من أن تعيشها كبقية أقرانها، غير أن ذلك لم يمنعها من أن تعيشها فى حكايات زميلاتها، حتى إنها أحبت كلمة "الحب" قبل أن تعرف معناها، من كثرة ما سمعت عنها من زميلاتها فى المدرسة، ومن كثرة ما قرأت من قصص وروايات وأفلام عاطفية، فقد عاشت معنى اللفظ قبل أن تشعر بأحاسيسه فى قلبها، فأحبت "الحب" كمعنى مجرد، بل وراحت تفتى فى مشاكلها لزميلات دراستها حتى حملت لقب "أستاذة فى الحب"، إلى أن ظهر أول محب فى محطة الأتوبيس عند عودتها من المدرسة، عندما لاحظت أن أحد الضباط الشبان يتعقب خطواتها، فحرصت على تجاهله، لكنها لم تستطع منع قلبها من الخفقان له من كثرة مطاردته لها ونظراته وحركاته وسيره خلفها ومحاولته الحديث معها، وانتظارها على باب المدرسة.. حتى استوقفها ذات يوم بأدب شديد، وادعى أنه صديق لشقيقها منير، وناولها رسالة، فأخذتها منه بيد مرتجفة وما إن فتحتها حتى وجدتها رسالة غرام تكاد تلتهب من حرارة كلماتها مكتوبة بأسلوب جميل، وعبارات مهذبة. قرأت الرسالة أكثر من مرة وشعرت بأشياء جميلة تتسرب إلى داخلها، لم تشعر بها من قبل، لكنها تذكرت على الفور ثقة والديها فيها، وما يمكن أن يسببه لهما هذا التصرف، فما كان منها إلا أن أعطت الرسالة لوالدتها فور عودتها إلى المنزل، وحكت لها ما جرى من هذا الشاب، قرأتها الأم بهدوء ثم مزقتها، وجلست تلقنها الدرس الأول فى ألاعيب الشباب مع الفتيات فى مثل عمرها، وكيف يمكن للفتاة أن تحمى نفسها لتكسب ثقة أسرتها وكل من حولها، فكان بالفعل درساً بليغاً دفعها لتجاهل هذا الشاب رغم تعدد زياراته للمدرسة وانتظاره لها كثيراً، وبرغم أنها كانت ترغب فى التحدث معه، ولم تستطع أن تمنع قلبها من أن يخفق، لكن كلام والدتها كان يرن فى أذنيها، فتشعر بالخوف والتراجع، ليخنق الخوف حبها الأول. كانت مشاورة يوسف وهبى على أى من الوجوه الجديدة، تعنى إشارة واضحة بنبوءة لصاحبها بأن لديه موهبة كبيرة، فما إن شاركت فاتن فى فيلم "ملاك الرحمة"، حتى طلبها المخرجون فى أربعة أفلام جديدة فى العام نفسه، فعملت مع حسن الإمام فى فيلم "ملائكة فى جهنم"، ثم مع المخرج إبراهيم عمارة فى "الملاك الأبيض"، ثم تتحقق أمنيتها وتقف أمام أول بطلة التقت بها فى طفولتها، وتشارك الفنانة آسيا داغر بطولة فيلم "الهانم" للمخرج هنرى بركات، لتعود من جديد إلى مكتشفها الأول المخرج محمد كريم من خلال فيلم "دنيا". وجدت فاتن أن العروض السينمائية تنهال عليها، وبدأت تتضح فى الأفق ملامح المستقبل، فإذا ما كانت ستتخذ من التمثيل مهنة لها، فلابد أن تصقل هذه الموهبة بالدراسة، الأمر الذى شجعها على الالتحاق بمعهد التمثيل الذى افتتحه زكى طليمات آنذاك فى شارع "نوبار"، خصوصاً أن الدراسة فيه ليلية، ولن تتعارض مع دراستها فى المدرسة الثانوية، فكانت ضمن أفراد الدفعة الأولى التى ضمت معها، نعيمة وصفي، فريد شوقي، حمدى غيث، شكرى سرحان، وعبد الرحيم الزرقاني، غير أن فاتن كانت أصغرهم سناً، ما جعل مدير المعهد الفنان والمخرج زكى طليمات، يوليها اهتماما خاصا، حتى إنه راح يدربها بعيدا عن بقية الزملاء على نطق حرف "الراء" حيث كانت تعانى من لدغة فى نطقه زاد منها إتقانها اللغة الفرنسية. لم يستمر بقاء فاتن فى معهد التمثيل طويلا، فقبل أن ينتصف العام الثانى لها فى المعهد، قررت ترك الدراسة فيه، لأسباب ربما لم تعلنها فاتن فى وقتها، فكيف تتجرأ على ترك الدراسة، فيما كان يستعد أقرانها للتخرج، والتباهى بأنهم الدفعة الأولى، فى أول معهد لتدريس التمثيل فى الشرق الأوسط وإفريقيا؟ كان معهد التمثيل الذى أنشأه زكى طليمات، معنيا فى المقام الأول بتدريس التمثيل وفن الإلقاء والحركة، ليعد ممثلين مسرحيين فى المقام الأول، ولأسباب خاصة بها، لم تقع فاتن حمامة فى غرام شيئين التزم بهما إلى حد كبير، أغلب زملائها السابقين واللاحقين، وهما حب الوقوف على خشبة المسرح، والالتزام بالأداء الكلاسيكى فى التمثيل، خصوصاً فوق خشبة المسرح، وما يتم تقديمه عليها من أعمال كلاسيكية من روايات المسرح العالمي، والمسرح المصري، وهو مالم تقتنع به فاتن حمامة، كما لم تلجأ إليه فى أدائها، فوجدت أن بقاءها فى المعهد لن يضيف لها الكثير بعد الذى حصلته منه فى العام الأول، فكان قرارها الجريء بترك الدراسة فيه، قبل ستة أشهر فقط من التخرج، لتتفرغ لدراستها الثانوية التى لم تكملها بعد. بعد عرض الأفلام الخمسة لها فى العام 1946 "ملاك الرحمة، ملائكة فى جهنم، الملاك الأبيض، الهانم، ودنيا" تلقت فاتن حمامة أول رسالة من معجب، وكان سورى الأصل، غير أنه أسهب كثيراً فى وصف نفسه، وتحدث عن ثروته، ثم أنهى الخطاب بطلب الزواج منها، فأسرعت إلى والدها وهى خائفة جداً وأعطته الخطاب، فقرأه بهدوء ثم ابتسم قائلا: لازم تتوقعى من دلوقت وجاى أن يكون لك معجبون، ويبعتولك جوابات.. ومش لازم تهتمى أوى بكل اللى هايكتبوه فى جواباتهم، المهم إنك لازم تردى عليهم بكل أدب واحترام.. مهما كان المكتوب.. ودا حقهم عليك.. المعجب بيحس إن الفنان ملكه لوحده. فى نفس اليوم اصطحبها والدها إلى مصور شهير، وطلب منه التقاط عدة صور بأوضاع مختلفة، وطبع خمسمائة صورة من كل وضع. إيه الصور دى كلها يا بابا.. دى كتير أوي. - شوفى يا فاتن.. إنت بقيت ممثلة معروفة.. والناس بتشاور عليك دلوقت.. ومعجبين بيك.. وكمان لسه هايوصلك جوابات كتيرة من معجبين ومعجبات.. وفيه منهم اللى هايطلب صورة لك.. وكمان لازم توزعى صورك على المعجبين يوم افتتاح أى فيلم. بالفعل صدقت توقعات والدها بعد مشاركتها خمسة أفلام فى العام 1946، عرض عليها فيلمين آخرين فى العام التالى 1947، هما "نور من السماء، القناع الأحمر"، لتصبح فاتن فنانة مشهورة، تكتب عنها الصحف والمجلات، وتنشر صورها وأخبارها، ويصبح لها جمهور عريض، تتلقى منه كل يوم عشرات الرسائل، غير أن أغلب الخطابات التى تصلها من المعجبين تحمل عروضاً للزواج حتى وصل عدد العرسان فى عام 1947 ما يزيد على ثلاثة آلاف "عريس".. ثلاثة آلاف شخص فى عام واحد أبدوا رغبتهم فى الارتباط بالفنانة الشابة فاتن حمامة، غير أنها لم تكن تدرى أن القدر يخبئ لها نصيبها، والذى حمله لها فيلمها الأخير هذا العام. لم يكن والد فاتن يتركها بمفردها، سواء عند توقيع عقد فيلم جديد، أم أغلب أيام التصوير، حتى عندما كانت تتردد على "بيت الفن" ذلك النادى الذى أنشأه بعض الفنانين ليكون مكانا يلتقون فيه فى أوقت فراغهم، ويعقدون فيه اتفاقاتهم، بل ويلجأ إليه أحيانا بعض المخرجين ليشاهدوا فيه بعض الممثلين أو الوجوه الجديدة لاختيارهم فى أعمالهم. كان من بين المترددين على النادى فى ذلك الوقت المخرج عز الدين ذو الفقار، الذى لاحظ تردد فاتن بصحبة والدها على النادى يوميا، فلفتت نظره، فلم يتردد وقدم نفسه لوالدها، مبديا إعجابه بفاتن كممثلة منذ أن شاهدها فى فيلم "القناع الأحمر"، ولم تمض أيام قليلة حتى أصبح عز الدين ذو الفقار صديقا لوالدها. كان عز الدين ذو الفقار يستعد لإخراج فيلمه الجديد "أبو زيد الهلالي" من إنتاج المطرب محمد أمين، واتفق المنتج والمخرج على أن تقوم الفنانة "إلهام حسين" بدور البطولة أمام الفنان سراج منير، غير أن الشركة فشلت فى الاتفاق معها، فبدأت تبحث عن بطلة جديدة تصلح للقيام بدور البطولة، ففوجئت فاتن بعز الدين ذو الفقار يسند إليها الدور، ليكون أول بطولة مطلقة لها كفنانة شابة، فلم تتردد، لينجح الفيلم بشكل لم يتوقعه عز الدين ذو الفقار نفسه، ويصبح نقلة مهمة فى رحلتها الفنية، ما شجعه على أن يتقدم إلى والدها ليطلب يدها للزواج. وافق أحمد حمامة على طلب عز الدين ذو الفقار، بشرط أن يؤجل كل الإجراءات إلى ما بعد انتهائها من الدراسة الثانوية، غير أنه راح يتردد على بيتها بشكل دائم، واستطاع خلال هذه الفترة أن يقنع والدها بتكوين شركة سينمائية كبيرة مع المصور مصطفى حسن، لتكون باكورة إنتاجها فيلم "خلود" الذى كتبه وأخرجه عز الدين ذو الفقار، الذى قرر أيضا أن يقوم أمامها فيه بدور البطولة، وشاركهما كمال الشناوى وإسماعيل ياسين. خلال تصوير الفيلم اقتربت فاتن من عز الدين أكثر، فاتفقا معا أثناء التصوير على اختصار الطريق بالزواج فوراً، وكانت مفاجأة للأسرة عندما عادا للبيت فى هذا اليوم، وقد تزوجا بالفعل، فلم يكن أمام الأسرة سوى مباركة الزواج، لينتقل الزوجان إلى فندق" الكونتننتال" لقضاء شهر العسل، لحين الانتهاء من "عش الزوجية". * نشر في مجلة الأهرام العربي بتاريخ 11 أكتوبر 2014