في ذكرى ميلاد نجيب محفوظ، التي تحمل رقم 103، ينشر "المقهى الثقافي" بعض شهادات كتّاب ومبدعين حول أديب نوبل. الكاتب والقاص أحمد عبد المنعم رمضان يقول في شهادته التي تحمل عنوان " نجيب محفوظ والتلميذ الخائف": -1- لم تكن طفولتى تخلو من عنف وخوف، فقد نشأت وعشت بداية طفولتى بالتزامن مع نشاط الجماعات الإسلامية وازدياد عملياتها الإرهابية، كنت أخشى ركوب الأتوبيسات ظنا منى أنها مفخخة، وتتابع عينى باستمرار أكوام الزبالة والحقائب والأكياس، أخاف من المنقبات وأحدق إلى عيونهم متشككا فى كونهم رجالا متنكرين، وأتأمل الملتحين بنظرات طفولية مفضوحة. فى عام 1993، وأنا ما بين السادسة والسابعة من عمرى، استشهدت الطفلة شيماء فى محاولة اغتيال رئيس الوزراء حينها عاطف صدقى، كانت صورها على أغلفة كل الجرائد والمجلات، بما فيها مجلات الأطفال، مازلت أذكر ملامحها جيدا كأنى رأيتها بالأمس. وبعد عام أو ربما أقل، تصدرت أغلفة الصحف والمجلات نفسها صورة نجيب محفوظ بعد محاولة فاشلة أيضا لاغتياله، كانت الصورة الأكثر استخداما هى صورته سائرا بجوار كورنيش النيل بابتسامة بشوشة تعرفها جيدا. قال لنا مدرس اللغة العربية الذى ما لبث أن ترك مدرستنا إن نجيب محفوظ هذا كافر، وقال – أو ربما آخر - إنه فاز بجائزة نوبل بسبب تشويهه للإسلام ولصورة المجتمع المصرى المسلم. فعدت إلى والدى وسألته "هل فعلا نجيب محفوظ كافر؟". -2- فى سنوات إعدادى، درسنا ضمن منهجنا الدراسى رواية (كفاح طيبة)، رابع ما كتب نجيب محفوظ، لم أكن أحبها، فى الواقع لم أحب أيا من الروايات العربية التى درست لنا، كفاح طيبة، يوم القدس، واإسلاماه، فى حين أحببت بعض الروايات والمسرحيات الأجنبية مثل (المفتش العام) لجوجول وبعض الشكسبيريات ومسرحية (كل أبنائى) لأرثر ميلر. قد أرجع جزءا من الأمر الآن إلى حيوية مدرسى الإنجليزية مقابل جمود مدرسى العربية، إلا أن بآخر الأمر حاجزا قد صنع بينى وبين الرواية التى لم أعاود قراءتها منذ ذلك الحين. -3- فى عام لاحق، علمت أن أحد معارف أبى يواظب على حضور جلسة نجيب محفوظ الأسبوعية حيث يقرأون له الصحف والمجلات الأدبية بعدما ضعف بصره وكبر سنه، ويتناقشون فى محتواها ضمن أحاديث أخرى، طلبت منه أن يصطحبنى إلى إحدى تلك الجلسات، وأبدى الرجل استعدادا وسألنى أن أحدد الأسبوع الذى يناسبنى، ولكنى ترددت، رهبت الموقف ولم أذهب، تحججت بمذاكرة الثانوية، تصورت أننى لا أعلم ما يكفى ليساعدنى فى مجالستهم، سأبدو جاهلا جدا وقد أتحول حتى إلى مادة للسخرية، أدركت بحينها أن علىّ أن أوسع ثقافتى وأزيد قرأتى حتى استطيع يوما ما – إن أمهلنى الزمن- أنا أجالسهم مطمئنا. -4- شاهدت أغلب الأفلام المأخوذة عن روايات نجيب محفوظ قبل أن أقرأها. أحيانا أتعمد عدم مشاهدة فيلم ما قبل قراءة نص روايته الأصلى خوفا من أن يفسد علىّ الفيلم متعة قراءته، ولكن هذا الخوف لم ينتابنى أبدا مع نجيب محفوظ، فأنا أعلم جيدا أن رواية محفوظ ونصه لن يخلوا من متعة إضافية وعمق زائد يحافظ على تعلقى بالرواية وشغفى لإكمالها بنفس الحماس والاستمتاع. وأرى فى روايته شديدة الكلاسيكية والميلودراما (بداية ونهاية) نموذجا صارخا على مدى القدرة على الإمساك بحواس القارئ رغم تقليدية البنيان والحبكة المتوقعة. -5- يقول أحد المخرجين السينمائين الكبار – لا أذكر اسمه – أن المخرج المتميز يخرج عملا واحد، وعندما سئل وماذا عن المخرج شديد التميز، قال إنه ذلك المخرج الذى يخرج عملين. أعتقد أن نفس الأمر يسرى على الكتاب، فكونديرا وماركيز وكافكا وساراماجو وألبير كامو ويوسف إدريس وهيمنجواى وأغلب الكتاب الكبار لم يكتبوا إلا عملا واحدا أو عملين ممتدين على عشرات الروايات والقصص. ولكن الشئ شديد التميز فى نجيب أنه كتب أربعة أو خمسة أعمال أو يزيد، وتسطيع بنظرة واحدة على سجل رواياته أن تضع خطا فاصلا بين كل مرحلة والأخرى، وكأنه يسير طبقا لخطة مسبقة واضحة ومنضبطة. وبالنظر لانضباط حياة نجيب محفوظ، انضباطها الشديد، فلا نستبعد أن كل خطوات كتابته كانت محسوبة ومتخيلة ومخططة بشكل أو بآخر فى ذهنه شديد التنظيم. -6- قلت لصديقى ذات يوم أثناء جلستنا على القهوة، إننى يجب أن أضبط مواعيدى معه ومع باقى الأصدقاء كما كان يفعل نجيب محفوظ ، فنحدد ميعادا منضبطا للقاء وميعادا آخر لإنهائه، ثم حكيت له ما قرأته عن مدى انضباطه، ودللت على رأيى برواية تلك القصة، أنه يوم علم بفوزه بنوبل، وبعد أن توافد على منزله بالعجوزة أعلام الأدب والصحافة والفن بمصر بذلك الحين، قام فى تمام الخامسة مساء من على كرسيه وانسحب من بينهم دون أن ينتبهوا، ثم، وعندما لاحظوا غيابه، ظنوا أنه ذهب لقضاء حاجته أو ما شابه، ولكنهم ما لبثوا أن سمعوا صوته مناديا على زوجته من داخل حجرته، فأتته تحمل الجرائد مهرولة، فالخامسة هو ميعاد القيلولة بعد قراءة الصحف على السرير، ولن يفسد ذلك النظام وهذه المواعيد لا نوبل ولا كوكبة المشاهير الجالسين بالصالون. فكرت وأنا أقرأ مذكرات أصدقاء نجيب محفوظ ورفقته وحكاياتهم عنه، أننى لن أدعو الله أن يرزقنى موهبة نجيب محفوظ، فالموهبة نسبية ولا مقياس ثابت لها، ولكننى قد أسأله أن يرزقنى صبره، زهده، انضباطه، تصالحه مع ذاته، وتعاليه على تنافسية الحياة، واستغنائه، الاستغناء الذى هو أصل الغنى.