مع اقتراب نهاية كل عام، يظهر بابا نويل في شوارع العالم من خلال الصور والدمى المختلفة متنوعة الأشكال والأحجام، فمن يكون الرجل ذو اللحية البيضاء والملابس الحمراء الذي يستقل زلاجته الجليدية المحملة بهدايا الأطفال؟. موضوعات مقترحة حكاية الإنسان والزمان.. أصل الاحتفال بليلة رأس السنة عند شعوب العالم بدء ترميم المركب الثاني لخوفو.. كيف اكتشف كمال الملاخ «مراكب الشمس»؟| صور مغارة ابن خلدون.. هنا وُلدت «المقدمة» وتأسس علم الاجتماع| صور رغم أن هذه الصورة تبدو للوهلة الأولى بسيطة ومألوفة لرمز عالمي ارتبط بالفرح والهدايا وبهجة الأطفال، فإنها تخفي وراءها قصة طويلة يتداخل فيها التاريخ بالخيال، والواقع بالتصورات التي صنعتها الثقافة الإنسانية عبر قرون متعاقبة. القديس نيقولاوس.. بداية الحكاية تعود الجذور الأولى لهذه الشخصية إلى القرن الرابع الميلادي، حيث عاش القديس نيقولاوس، أسقف مدينة ميرا في آسيا الصغرى، والذي عُرف في المصادر التاريخية بسخائه ومساعدته للفقراء والأطفال، وحرصه على تقديم العون في الخفاء. وقد انتشرت سيرته في مناطق واسعة من العالم القديم، خاصة في منطقة حوض البحر المتوسط، وهو فضاء عُرف منذ القدم بتبادل الأفكار والعادات والرموز بين شعوبه، وكان لمصر نصيب وافر من هذا التفاعل الحضاري عبر تاريخها الطويل. ومع مرور الزمن، لم تبقَ سيرة نيقولاوس حبيسة النصوص الدينية والوقائع التاريخية، بل تحولت إلى حكايات شعبية، أضافت إليها المخيلة الجمعية عناصر جديدة، جعلتها أكثر قربًا من الناس، وأقدر على الانتقال من جيل إلى آخر. بابا نويل يظهر في أوروبا وأمريكا ومع انتقال هذه الحكايات إلى أوروبا الغربية، بدأت الشخصية تكتسب ملامح مختلفة، متأثرة بالبيئات الاجتماعية والثقافية التي استقبلتها، إلى أن ظهرت في هولندا شخصية «سينتركلاس»، التي ارتبطت بتوزيع الهدايا على الأطفال في موسم الشتاء. ومع الهجرة الأوروبية إلى العالم الجديد، انتقلت هذه التقاليد إلى أمريكا، حيث خضعت لمزيد من التحولات، ففي القرن التاسع عشر، لعب الأدب والصحافة دورًا أساسيًا في إعادة صياغة صورة بابا نويل، وتثبيت ملامحه المعروفة اليوم. ومع تطور وسائل الإعلام، لم يعد بابا نويل مجرد شخصية مرتبطة ببيئة ثقافية محددة، بل تحول إلى رمز عالمي، يتجاوز الحدود واللغات، ويحمل دلالات احتفالية مشتركة. السينما وصناعة الأسطورة في القرن العشرين، ساهمت السينما والإعلانات ووسائل الإعلام الجماهيرية في تعزيز حضور بابا نويل، وربطه بنهاية العام وبدايته، باعتبارها لحظة للتجدد والفرح واللقاء الأسري. ومع تسارع وتيرة العولمة، انتقلت هذه الصورة إلى مجتمعات مختلفة، من بينها المجتمعات العربية، حيث لم يُنظر إلى بابا نويل بوصفه شخصية دينية، بل كرمز احتفالي مرتبط بالبهجة والطفولة. بابا نويل في مصر.. حضور خاص وفي مصر، التي عرفت عبر تاريخها الطويل طقوس الاحتفال بالمواسم وبدايات الزمن، بدا استقبال هذه الشخصية متسقًا مع طبيعة المجتمع المصري، الذي يميل بطبيعته إلى الفرح الجماعي والاحتفال المشترك، فقد تعامل المصريون مع بابا نويل بوصفه رمزًا اجتماعيًا بسيطًا، يظهر في واجهات المحال، وفي الفعاليات الترفيهية، وفي المساحات العامة، دون أن يمثل عبئًا ثقافيًا أو صدامًا مع الخصوصية الحضارية. وهو ما يعكس قدرة المجتمع المصري على استيعاب الرموز الوافدة، وإعادة توظيفها بما يتلاءم مع قيمه وعاداته. ويرتبط استمرار حضور بابا نويل، على نحو لافت، بعالم الطفولة، حيث يمثل عنصرًا من عناصر الخيال الجميل الذي ينتظره الأطفال في نهاية العام. فالطفل لا يتعامل مع هذه الشخصية بوصفها حقيقة تاريخية، بل كقصة تحمل وعدًا بالفرح والمفاجأة. ومن هنا، لعب بابا نويل دورًا رمزيًا في تعزيز مشاعر البهجة، وترسيخ قيم المشاركة والعطاء، وهي قيم إنسانية تعرفها المجتمعات المصرية والعربية منذ قرون طويلة، وإن اختلفت الأشكال والرموز. وفي ظل هذا التداخل بين التاريخ والخيال، يظل السؤال مطروحًا: هل بابا نويل حقيقة أم خيال؟، والحقيقة أن الإجابة تكمن في الجمع بين الأمرين، فالجذور التاريخية حاضرة في شخصية حقيقية عُرفت بالعطاء، بينما الصورة المتداولة اليوم هي نتاج خيال إنساني جمعي، أعاد تشكيل الرمز بما يتناسب مع روح العصر. وفي النهاية، فإن قصة بابا نويل بين الحقيقة والخيال ليست مجرد حكاية موسمية عابرة، بل مثال واضح على قدرة الإنسان على صناعة الرموز، وتحويلها إلى أدوات للتعبير عن الفرح والأمل وبدايات جديدة. وفي مجتمع مثل المجتمع المصري، الذي ارتبط عبر تاريخه بفكرة التجدد واستقبال الزمن بروح احتفالية، يظل بابا نويل رمزًا بسيطًا، لكنه معبر، يذكّر بأن الفرح قيمة إنسانية مشتركة، وأن الخيال، حين يلتقي بالتاريخ، قد يصنع قصة تعيش طويلًا في الذاكرة. د. سعيد محمد طه دكتوراه التاريخ الوسيط عضو اتحاد المؤرخين العرب والجمعية المصرية للدرسات التاريخية