أحببنا التشجيعَ الحماسيَّ الذي تلقاهُ منتخبُنا الوطنيُّ لكرةِ القدمِ في بطولةِ كأسِ الأممِ الأفريقيةِ الحاليةِ، ووجَّهَ أكثرُ من معلقٍ ولاعبٍ الشكرَ للجماهيرِ المغربيةِ. وفي مقالي السابقِ تناولتُ الحفاوةَ البالغةَ للمصريينَ بأولياءِ اللهِ الصالحينَ من المغاربةِ، الذين تسيدوا المقاماتِ خصوصًا في الإسكندريةِ، حيث وجدوا المساحةَ المريحةَ لتأملاتِهِم، والترحيبَ بهم من أهلِ مصرَ، فاختاروها مستقرًا أبديًا لأجسادِهِم. كما تحدثتُ عن سيدِ الرحلةِ العربيةِ ابنِ بطوطةَ والذي بهرتهُ مصرُ ومدنُها وعلى رأسِها القاهرةُ. قبل ذلك كان الفاطميون قد أقاموا دولتهم، وهم القادمون من المغربِ، والتي انتشرت على مساحةٍ واسعةٍ طالت شمالَ إفريقيا بالكاملِ وامتدت إلى الشامِ والحجازِ، وأصبحت بموجبِها القاهرةُ مركزًا للخلافةِ. أما المغاربةُ، ما بعد الفاطميين، فقد وجدوا في مصرَ أمنًا وترحيبًا، شجعهم على الإقامةِ في مصرَ، وخلفهم ضغوطٌ إسبانيةٌ بعد سقوطِ الأندلسِ، وشكلوا مكونًا رئيسيًا في النسيجِ المصريِّ. ثم زادت الهجرةُ المغربيةُ إلى مصرَ في ظلِّ أوضاعٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ صعبةٍ في بلدِهِم، أدت إلى خروجِ المغاربةِ إلى مصرَ والشامِ والحجازِ، من دون أن يرجعوا. وغالبًا كان الخروجُ للحجِّ والتجارةِ، وقد كان الوصولُ إلى مكةَ والمدينةِ أعلى مراتبِ الحلمِ المغربيِّ. وبسبب الحجِّ رأوا العالمَ من حولِهِم وشاهدوا المدنَ والأمصارَ، وبدأت الحياةُ عندهُم تتحولُ إلى مجموعةِ خياراتٍ، والتحقوا بدورِ العلمِ المتاحةِ، وانخرطوا في التجارةِ. ولاحظ د. حسام عبد المعطي في كتابهِ "المغاربة في مصر خلال القرن الثامن عشر" (إصدارات مكتبة الإسكندرية سنة 2015) أنَّ التجارَ المغاربةَ المستقرونَ بمصرَ والتجارَ المصريينَ قاموا بدورٍ كبيرٍ في تعليمِ الحجاجِ المغاربةِ التجارةَ دون قصدٍ. فعند وصولِ قافلةِ الحجِّ المغربيِّ إلى مصرَ كان تجارُ القاهرةِ يسارعونَ إلى عقدِ صفقاتٍ تجاريةٍ مع الحجاجِ لإعطائِهِم بضائعَ لبيعِها في الحجازِ، على أن يحصلوا على نسبةِ 10% من الأرباحِ بعد إخراجِ رأسِ المالِ والمصاريفِ، شريطةَ أن يشتروا بالأموالِ أقمشةً هنديةً أو بنًا أو عقاقيرَ طبيةً من الحجازِ، على أن يحصلوا على 15% من أرباحِها. وفضَّل عددٌ ليس بالقليلِ من الحجاجِ المغاربةِ البقاءَ في مصرَ وانخرطوا في التجارةِ المصريةِ الرابحةِ وما وجدوهُ فيها من فرصِ النجاحِ. وساعد على ذلك وجودُ الأزهرِ الشريفِ كمؤسسةٍ علميةٍ استثنائيةٍ في ذلك الزمانِ، وهو في الأصلِ مؤسسةٌ مغاربيةٌ، حيث أنشأهُ الفاطميون القادمون من المغربِ. فقد كان به مشاهيرُ العلماءِ والتعليمُ المجانيُّ والإنفاقُ المتنوعُ على الدارسين والشهادةُ المرموقةُ التي يمنحُها. وإذا كان في الأزهرِ رواقاتٌ كثيرةٌ (مدن جامعية للطلاب بالمفهوم الحديث) فإنَّ الرواقَ المغربيَّ سيصبحُ أهمَّ وأكبرَ أروقةِ الأزهرِ. ويورد عبدالمعطي تعليقًا من كتابِ "فاس قبل الحماية" ومؤلفهُ الفرنسيُّ لوجي لوطورنو حيث: "لم يكن الفاسيون يشعرونَ بالغربةِ في مصرَ". كما يستعينُ بالمؤرخِ أحمد باشا الجزارِ بأنهُ "يوجدُ في مصرَ ما بين 40 إلى 50 ألفَ تاجرٍ" وكان ذلك في عام 1785 م. وإذا كانت "حارة المغاربة" في حيِّ بابِ الشعريةِ دليلاً على تمركزِهِم، إلا أنَّ التجارَ استقروا بشكلٍ أوضحَ في حيِّ الغوريةِ، وهي قلبُ النشاطِ التجاريِّ بالقاهرةِ، حيث تاجروا بالأقمشةِ القطنيةِ الهنديةِ، وقطعًا كانت منطقةُ الأزهرِ أهمَّ مراكزِ الجذبِ للمغاربةِ. ووضع الباحثُ الدكتورُ عبدالمعطي في كتابهِ قائمةً مثيرةً لأهمِّ العائلاتِ المراكشيةِ، لنطالعَ فيها أسماءً مثل: عائلة الشرايبي، البناني، الحلو، ذكري، بن شقرون، التهامي، الفاسي، القصري، الساكت، البيطار، الريس، أبو حلوة، حسون، الجيلاني، العلمي، برادة، حميدة، خياط، ونحو 62 عائلةً هاجرت واستقرت في مصرَ. وكلها عائلاتٌ اشتهرت بالتجارةِ وقد استفادت من المركزِ التجاريِّ المهمِّ لمصرَ، حيث تاجروا في الذهبِ والبنِّ والأقمشةِ وأقاموا شبكاتٍ تجاريةً كبيرةً امتدت إلى الهندِوإسطنبول وأقاموا الأسواقَ الضخمةَ وامتلكوا السفنَ وتدخلوا في نوعيةِ الإنتاجِ الزراعيِّ، من دون ممانعةٍ من التجارِ المصريينَ، بل بالترحيبِ والشراكاتِ. وقد زاد تأثيرُهُم في الحركةِ التجاريةِ لدرجةِ أن أصبحَ واحدٌ منهُم، هو علي بن محمد بن أحمد الرويعي شهبندر تجارِ القاهرةِ، رغم مزاحمةِ تجارِ الشوامِ، وفي فترةٍ تاليةٍ تولى المغربيُّ محمد الشرايبي رئاسةَ تجارِ مصرَ وآخرين. وبعد فترةٍ من الزواجِ من داخلِ الطائفةِ المغربيةِ، انفتحت الطائفةُ وانصهرت مع عائلاتٍ مصريةٍ وشاميةٍ. واندمج المغاربةُ وعاداتُهُم وتقاليدُهُم في كيانِ ووجدانِ المجتمعِ المصريِّ. ويذكرُ عبدالمعطي قصةً طريفةً عن تجارةِ البنِّ، الذي ما إن جلبهُ طلابُ العلمِ من اليمنِ والحجازِ إلى حيِّ الأزهرِ، قوبل بمقاومةٍ عنيفةٍ من فقهاءِ الأزهرِ، وهاجم صاحبُ العسسِ في القاهرةِ (مدير الأمن) سنة 1539 م مستهلكيهِ، ولكن سرعان ما وجدت إقبالاً واسعًا، ما ساهم في انتقالهِ إلى الشامِ ثم إسطنبول التي تحولت إلى أكبرِ مستهلكٍ في العالمِ للقهوةِ. ثم اتجهت شمالاً إلى البندقيةِ التي استوردت البنَّ من مصرَ، ثم أمستردام ولندن، بعدها استورد التاجرُ الفرنسيُّ جان دي لاروك صفقةَ بنٍ من الإسكندريةِ، أدت إلى فتحِ أولِ مقهى للبنِّ في فرنسا، وكان ذلك في مدينةِ مرسيليا.