عبدالسلام فاروق لا نقف هنا أمام علاقة دبلوماسية عابرة، ولا أمام تحالف ظرفي تفرضه المصالح المؤقتة. نحن أمام ظاهرة إستراتيجية فريدة، أمام نموذج للتمازج العضوي بين ثقلين عربيين يشكلان معًا عمودًا فقريًا للأمة. العلاقة بين مصر والسعودية هي قصة متجددة من الدم والعراقة والتاريخ، لكنها أيضًا رؤية مستقبلية تُترجم على أرض الواقع، تحكي فصلًا من فصول القيادة العربية المسئولة في زمن التحولات الكبرى. العمق التاريخي لو حاولنا فصل شريان التاريخ الذي يربط مصر بالجزيرة العربية، لوجدنا أننا أمام مهمة مستحيلة. فالجذور تمتد إلى عشرينيات القرن الماضي، عندما وقع البلدان معاهدة الصداقة عام 1926 كأول وثيقة تنظم العلاقات الثنائية، مجسدين رغبة مشتركة في مواجهة التحديات الإقليمية تحت النفوذ الاستعماري البريطاني. هذا ليس مجرد امتداد جغرافي، بل هو امتداد ديموغرافي وثقافي، ظل يتعزز عبر المحطات الكبرى. ففي الأربعينيات، أسس لقاء الملك عبد العزيز بالملك فاروق عام 1945 في قناة السويس لمرحلة جديدة من التعاون، تُوِّجَ بتأسيس جامعة الدول العربية التي كان البلدان من أبرز مؤسسيها. ثم جاءت حرب أكتوبر 1973 لتشهد واحدة من أبهى صور الوحدة العربية، عندما قررت السعودية بقيادة الملك فيصل استخدام سلاح البترول كأداة ضغط سياسي واقتصادي لدعم الموقفين المصري والعربي، في قرار غيَّر موازين القوى العالمية. هذه الذاكرة المشتركة من النضال والتحرر هي الخزان الأخلاقي الذي تستمد منه الشرعية الشعبية لأي شراكة رسمية. القاعدة الصلبة للأمة.. لا يمكن للقادة أن يجتمعوا إلا لأن الشعبين يتفاهمان. فالمصري والسعودي يتعاملان كجسد واحد، يتألم أحدهما إذا مرض الآخر، ويبتهج إذا انتصر. هذا النسيج الاجتماعي المتماسك هو الذي يجعل من العلاقة بين البلدين مناعة ضد مشاريع التفتيت الطائفية والإقليمية. لقد تجسد هذا الترابط الشعبي في أصعب المحطات، مثل الوقفة السعودية الثابتة إلى جانب إرادة الشعب المصري في يونيو 2013، عندما قدمت المملكة دعمًا سياسيًا واقتصاديًا كان عاملًا حاسمًا في تثبيت أركان الدولة المصرية واستعادة استقرارها الإقليمي والدولي. هذا الدعم لم يكن ماديًا فحسب، بل كان تأييدًا للشرعية والاستقرار في قلب العالم العربي، في مواجهة تيارات الفوضى والتمزيق. صمام أمان في منطقة تموج بالمؤامرات وتتصارع فيها الميليشيات والتدخلات الخارجية، تبقى العلاقة المصرية السعودية الرادع الأقوى ضد كل من يحلم بزعزعة الاستقرار. فالبلدان يشكلان معًا محور الاعتدال العربي الذي يسعى إلى ترسيخ قيم التعاون والسلام العادل. يُدرك البلدان تمامًا أن أمن الخليج جزء من أمن مصر، وأمن مصر جزء من أمن الخليج، وهي قاعدة راسخة في العقيدة السياسية والعسكرية للبلدين منذ عقود. وقد تجلى هذا الفهم في التنسيق الأمني والعسكري غير المسبوق، من خلال مناورات وتدريبات مشتركة مثل "رعد الشمال" و"تبوك" و"درع العرب"، التي تهدف إلى تعزيز الجاهزية الدفاعية والقدرة على مواجهة أي تهديدات محتملة للأمن العربي. القلب النابض .. لا يمكن لأي مشروع عربي أن ينجح بدون القيادة المصرية السعودية. فمن دعم القضية الفلسطينية إلى مواجهة الأطماع في المنطقة، يبقى محور القاهرة – الرياض هو القاطرة التي تقود العرب نحو أفق الوحدة والتضامن. لقد وقف البلدان جنبًا إلى جنب في إدارة ملفات الأزمات الإقليمية، مثل الأزمة السورية، والوضع في ليبيا واليمن والسودان، حيث تعمل القاهرةوالرياض على منع الانزلاق نحو الفوضى، ودعم الحلول السياسية القائمة على احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها. ويمثل الموقف المصري السعودي الموحد تجاه القضية الفلسطينية تعبيرًا عن التزام ثابت بالحقوق العربية المشروعة، ودعمًا لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967. تكامل إستراتيجي الاستثمارات السعودية في مصر رسالة ثقة في الاقتصاد المصري. والمشاريع المشتركة في الطاقة والأمن الغذائي والتحول الرقمي هي دماء جديدة في شرايين الأمة الاقتصادية. تشهد الأرقام على ازدهار هذه الشراكة، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين أكثر من 11 مليار دولار سنويًا، في ظل شراكات واستثمارات سعودية متنامية داخل مصر تجاوزت قيمتها 35 مليار دولار. وقد توسع هذا التعاون ليشمل مجالات متقدمة مثل الطاقة المتجددة والبنية التحتية الذكية، حيث تشارك الشركات السعودية المتخصصة في حلول الطاقة المتجددة بخبراتها في مصر، في إطار رؤى التكامل الإستراتيجي. وفي مجال الطاقة، ظهرت شراكة إستراتيجية جديدة عبر اتفاقيات التنقيب عن النفط والغاز التي وقعتها مصر مع شركات عالمية كبرى، بما يعزز التعاون في قطاع الطاقة الذي يُعد شريان الحياة للاقتصادين. رؤى مستقبلية عندما تلتقي رؤية السعودية 2030 مع رؤية مصر 2030، نكون أمام مشروع حضاري عربي يضع الأسس لمستقبل أكثر إشراقًا. فكلتاهما تسعى إلى تحقيق التنمية المستدامة، وتنويع الاقتصاد، وبناء مجتمع حيوي يواكب متطلبات العصر. لقد انتقلت العلاقات بين القاهرةوالرياض بعد عام 2015 إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية الشاملة، من خلال التنسيق الكامل في الملفات الإقليمية، وتكامل الرؤى الاقتصادية ضمن مشاريع التنمية العملاقة. ويعكس إنشاء "مجلس التنسيق الأعلى المصري السعودي" خطوة إستراتيجية تعكس الإرادة السياسية لدى البلدين للارتقاء بمستوى التعاون الاقتصادي والاستثماري والتجاري إلى آفاق أرحب. نموذج يحتذى العلاقة المصرية السعودية مصير مشترك، وهي نموذج للتعاون العربي الذي طالما حلمنا به. هذه الشراكة تثبت أن العرب عندما يتوحدون، يصبحون أقوى من كل التحديات، وأكبر من كل المؤامرات. فهي علاقة تقوم على الاحترام المتبادل ووحدة الهدف والمصير المشترك، كما يؤكد قادة البلدين. وما يجمع البلدين أكبر وأقوى من المصالح السياسية والاقتصادية، لأنها روابط التاريخ والدين والمصير الواحد، وهو ما يجعل العلاقة بينهما نموذجًا يُحتذى به في العمل العربي المشترك. في زمن التحولات الإقليمية والدولية الكبرى، تظل الشراكة بين القاهرةوالرياض ضمانة حقيقية لاستمرار الأمن القومي العربي، وركيزة أساسية لتحقيق التوازن العربي في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية. وهي علاقة تاريخية تضرب بجذورها في عمق الزمن، وتقوم على الاحترام المتبادل والمصير المشترك، وتحظى بدعم وتوجيه مستمر من القيادة السياسية في البلدين.