أغمض عينيك لدقائق، وأطفئ الأنوار.. فأنت على موعد استحضار ذاكرتك، وعظمتك التى أدهشت بها العالم أجمع، وجعلتهم يسيرون على دربك. استرجع ذكرياتك بآلامها وفرحها.. بمجموعة من الصور الموثقة على الجدران أو ما أصبحنا نضرب له الآن تعظيم سلام "الجرافيتى" ممزوجاً بأغان وألحان لم يقدر لك الاستماع لها إلا من خلال ذلك الميدان الذى يتوسط قلب العاصمة.. تذكر كل شيء دون إجهاد ذاكرتك، فيمكن إلقاء نظرة على موقع اليوتيوب ومشاهدة فيلم "الميدان". "The Square" أو الميدان هو واحد من أهم الأفلام الوثائقية الروائية التى قدمت عن ثورة يناير وما أعقبها من توابع وأحداث خلال عامين، تبدأ بأحداث ال25 من يناير، وتنتهى بثورة 30 يونيو وفض اعتصامي رابعة والنهضة. يأتيك الجزء الأول من الفيلم وتبدو الكهرباء منقطعة، وهو ما يجعل البطل الرئيسي في الأحداث، أحمد حسن وأصدقاءه يسخرون من ذلك في إشارة إلى أن "الحكومة هي صاحبة الكهرباء"، ليبدأ بعدها بسرد ما كانت عليه الدولة قبل ثورة يناير، تحديداً من طفولته التى روى فيها أنه كان يقوم ببيع الليمون لتعينه على مصروفات دراسته في مشاهد متتابعة عن فترة ما قبل 25 يناير، حيث السياسة التي كانت مقتصرة على الحزب الوطني، والداخلية وممارستها البلطجة، وغيرها من المقدمات التي جعلت من قيام الثورة أمراً حتمياً. خمسة أشخاص رئيسية تدور بينهم الأحداث، فأحمد حسن يمثل الشاب الثائر من الطبقة الوسطى في مصر، ومجدي عاشور الذي ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين ولكنه ثائر ومشارك في الثورة منذ بدايتها ومعترض في بعض الأحيان على بعض سياسيات الجماعة، وخالد عبد الله، الممثل المصري البريطاني، وعايدة الكاشف، التي تعتبر من صناع الأفلام المستقلة، والتي اشتهرت بدورها في مسلسل الجامعة بشخصية ماريان، والمطرب رامي عصام، الذى اعتبره البعض أحد وسائل توثيق أحداث الثورة من خلال أغانيه التى كان يقوم بكتابتها وتلحينها ويغنيها من قلب الميدان، وبيير سيوفي صاحب الشقة المطلة على الميدان، وصاحب استضافة هؤلاء جميعاً في منزله. كما تظهر في الأحداث المحامية الحقوقية راجية عمران. وتأتي الأحداث كسرد لواقع الثورة منذ نزول الشعب في 25 يناير مروراً بأيامها وصبرهم على رحيل النظام خلال 18 يوما، مروراً باعتلاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة منصة الحكم، وكيفية تحول حب الشعب لهم إلى كراهية بعد تغيير سياستهم في التعامل مع المتظاهرين في كثير من الأحداث والتى شهدت كثيرا من العنف لعل أبرزها وأهمها مذبحة ماسبيرو، وواقعة ضرب فتاة وسحلها على الأرض وتجريدها من ملابسها. يعرض الفيلم كثيرا من الأحداث خلال فترة حكم المجلس العسكري، التي حدثت في ميدان التحرير ومحيطه، باستثناء أحداث مجلس الوزراء، وغيرها التى وقعت في العباسية ومذبحة بورسعيد، نظراً لأن الفيلم يرتكز محوره الأساسي على "ميدان التحرير". يصل الفيلم إلى فترة انتخاب الرئيس المعزول محمد مرسي، ووصول جماعة الإخوان المسلمون إلى منصة الحكم، وما حدث من انقلاب الشعب والقوى الثورية ضدهم، وذلك بسبب أفعالهم التي كانت تخدم مصالح الجماعة فقط، حتى أن بطل الفيلم الشاب أحمد حسن قال في أحد المشاهد موجهاً حديثه للإخوان "خدوا الميدان واعملوا اللي انتوا عايزينه والثورة جاية غصب عن أي حد". وأبرز ما في فيلم "الميدان"، العلاقة التى أظهرتها مخرجته جيهان نجيم بين أبطاله، والتى حرصت من خلالها أن تؤكد على روح الصداقة التى نشأت بين كيانات مجتمعية مختلفة، جمعتهم الظروف صدفة في الميدان، لكنهم رغم اختلاف شخصياتهم وآرائهم السياسية إلا أنهم ظلوا معاً. يظهر هذا جلياً من خلال علاقة بطل الفيلم أحمد حسن "الشاب البسيط الثائر"، ومجدي عاشور "عضو جماعة الإخوان"، وأيضاً علاقتهم بالممثل خالد عبد الله المصري الأمريكى الذى قضي عمره في الخارج، كل جاء ذلك ممزوجاً بمشاهد جلوسهم معاً في شقة واحدة، وتناولهم الطعام على عربة فول وغيرها. ويأتى دور تظاهرات 30 يونيو الحاشدة التي قامت ضد حكم مرسي وجماعته، ثم عزل الفريق أول عبد الفتاح السيسي له في 3 يوليو، وبدء اعتصامات الإخوان التى لا تظهر على الشاشة بسبب أن الفيلم يتحدث عن ميدان واحد "التحرير" وهو ما يعد ذكاء من مخرجته التى أوصلت رسالتها للمشاهد بشكل غير مباشر، ولكنه يعرف عن تلك الاعتصامات من خلال حديث أحمد حسن مع مجدي عاشور الموجود بالاعتصام، والذي يرفض حضور أحمد للاعتصام بسبب خوفه عليه من بطش أحد الموجودين، مع تأكيده له أنه لم ينزل حتى يقتل أحد ولكن لإيمانه بقضية من وجهة نظره. والنهاية تركت مفتوحة، تؤكد على فكرة الضمير الذى أصبحنا جميعاً في حاجة إليه، مع العلم أن الميدان أصبح هو الملجأ لأى رئيس يستنفد طاقة شعبه ويكسر أحلامهم التى حلموا بها داخل هذه الصينية المستديرة. ولعل الاختلاف الحقيقي في هذا العمل، فن "الجرافيتى" الذى ولد على يد الثورة، كان هو السمة الأجمل في هذا العمل لكونه جزءا لا يتجزأ من الأحداث التى عايشها الشعب طيلة السنوات الثلاث الماضية، وهنا تجدر الإشارة إلى ذكر أحد أبطال هذا العمل وهو فنان الجرافيتي عمار أبو بكر، الذي ظهرت لمسته بين حين وآخر في مشاهد "الميدان". من التفاؤل أن تصبح لدينا مخرجة مثل جيهان نجيم في مجال السينما الوثائقية، التى لا يبحث ويهتم بها الإ قلة قليلة، وليس هذا فقط بل إن نجيم مخرجة أثبتت تميزها باستايل وطراز خاص في هذا المجال. أما المنتج كريم عامر فله الشكر كله على تحمسه بإنتاج هذا العمل التوثيقي، مع التأكيد على الجهد الذى بذله كريم وجيهان في وصول فيلم مصري للمشاركة في الأوسكار. وقبل ترشح الفيلم لنيل جائزة الأوسكار، فاز بعدة جوائز في نهاية عام 2013، أبرزها جائزة مهرجان تورتنو في فئة الأفلام الوثائقية. فيلم "الميدان" مدته ساعة و41 دقيقة، وقام عدد كبير من المصريين بعرض الفيلم في عدة أماكن بعد إعلان ترشحه للأوسكار. وأثيرت أقاويل عن منع عرض الفيلم في مصر إلا أن الرقابة نفت وأكدت أن الجهة المنتجة لم تتقدم بطلب لعرضه. وليس هناك أبدع أو أمتع من أن ننهي تقريراً عن فيلم "الميدان"، باقتباس الجملة الختامية للفيلم التي قالها بطله أحمد حسن: "إحنا مش بندور على قائد يحكمنا.. إحنا بندور على ضمير".