مشاهد متفرقة تدمي القلوب المتحجرة ، جميعها قصص إنسانية تجعل الدموع تنهمر من أول كلمة ينطق بها صاحبها، لم تفرق الأعمال الإجرامية في ليبيا بين صغير أو كبير، لم ترحم براءة الأطفال، أو المرأة العجوز، وكأنها تثأر من كل من أراد يوماً أن يضع قدميه على أرض ليبيا. محمود منصور..ذلك الطفل صاحب الستة أعوام،شاءت الأقدار أن يجلس على أحد أسرة مستشفى السلوم المركزى وحده ،ممسكاً ب"الدبدوب" الذى يحتفظ به ذكرى عن والده وعمه اللذين قتلا فى ليبيا على أيدى مرتزقة. خرج محمود من ليبيا بصحبة والده ووالدته وعمه، وبصحبته الدبدوب الذى اشتراه له والده قبل عشرة أيام من الآن،لكنه توفى بعد إطلاق النار عليه فى أحد الطرقات فى ليبيا بينما ظل محمود واقفا على الطريق وهو يحمل الدبدوب وبجواره أمه ويشاهد والده يموت أمام عينيه، ولايفعل أى شئ سوى البكاء والصراخ. أمام مستشفى السلوم وقفت سيارة الإسعاف لتفتح أبوابها وينزل منها امرأة حامل ومعها طفل صغير يحمل دبدوباً وفى حالة بكاء شديدة،قام الاطباء والمسعفون بإدخال السيدة إلى غرفة العناية المركزة،وجلس الطفل على أحد أسرة المستشفى يبكى بشدة وينظر الى الدبدوب الذى بات الذكرى الوحيدة له عن والده. مشهد الطفل محمود أبكى غالبية الموجودين بالمستشفى،سواء كانوا أطباء أو مرضى يرقدون على الأسرة فى حجرة الطوارئ،الكل يحاول تهدئته،هناك من يقدم له الطعام،والآخر يطلب منه أن يشرب العصير،لكن لم يسمع محمود لكل هؤلاء،واكتفى بالنظر الى الدبدوب،فى مشهد مؤثر ربما يتكرر لأول مرة فى هذا المستشفى منذ اندلاع ثورة ليبيا،ولايزال محمود ينتظر الآن والدته أن تخرج من غرفة الطوارئ،لعلها تكون سندا له بجانب دبدوبه بعدما فقد قررت الأقدار أن يعيش بدونه باقية حياته. من مشهد دبدوب محمود الحزين،إلى الطفلة إسراء التى لم يتعد عمرها الأربع سنوات وأصيبت بانفجار فى الطحال والمخ وكسور فى ساقيها بسبب القنابل التى كانت ترمى عليهم فى مدينة البيضا الليبية مما تسبب فى وفاة اختها سارة صاحبت الست سنوات ووالدها أحمدحسن عمر ذي الخمسة والاربعين عاما، لكن شاء القدر أن تصاب والدتها أمانى عبد المجيد جودة بجرح رضى فى الرأس وكسر بالساعد الايسر وارتجاج فى المخ وكسر فى العمود الفقرى. دخلت الأم أمانى غرفة العناية المركزة لعمل الإسعافات الأولية لها وكان يرقد بجوارها طفلتها الصغيرة إسراء على السرير المجاور لها بالغرفة وفور كتابة خطاب تحويلها لمستشفى مطروح العام وافتها المنية قبل أن ينقلوها من العناية المركزة إلى مطروح ، لتتسبب الأفعال الإجرامية لنظام القذافى فى أن تستكمل الأم أمانى حياتها وحيدة دون زوج أو ابن أو بنت لتنتظر المصير المجهول إذا قدر لها الله أن تشفى من إصاباتها. حالات مصرية جاءت من ليبيا ودعتها الأقدار بدموع الفراق، وأخرى ليبية شاءت الأقدار ألا يفارقون الحياة لكن سيظلون متذكرين أياماً سوداء عاشوا فيها ساعات تطايرت خلالها جثث لقتلى وأخرى لجرحى . من داخل مستشفى السلوم المركزى وتحديدا فى غرفة العناية المركزة يرقد الدكتور الليبى محيى الدين عبد العزيز الذى وصل عبر سيارات الإسعاف المصرية القادمة من الأراضى الليبية مصاباً بقطع فى الرقبة وانهيار عصبى حاد بسبب ما رآه فى ليبيا من كم الإصابات والجثث. ومن فوق السرير الذى كان يرقد عليه تتعالى صرخات الدكتور محيى مطالبا بأن يأتى معمر القذافى ليرقص أمامه فى المستشفى وإلا لن يأخذ "الحقنة" مما دفع الاطباء إلى تقييده بأيديهم بأعجوبة لاعطائه الحقنة المهدئة بعدما ظل يرقص فى المستشفى أكثر من ربع ساعة قائلا:"يسقط يسقط القذافى..يسقط يسقط المرتزقة". بعدما استرجع الدكتور محيى ذاكرته حكى أنه طبيب متخصص فى التخدير وكان يعمل فى ليبيا وبعدما اندلعت ثورة ليبيا عاد إلى وطنه للعمل فى مستشفى المرج بمطقة بنغازى ،وذات يوم جاءته سيارة بها بعض الاشخاص الملثمين واختطفوه لأرض صحراوية طالبين منه عدم إغاثة أى مصاب يأتى الى المستشفى لكنه رفض ذلك وقال لهم"مو هيحصل" وعندما طلبوا منه أن يقول " القذافى أفضل من الله"رد عليهم قائلا "لا..الله أفضل من القذافى" وهنا ضربوه فوق رأسه بآلة حديدية غيبت عقله تماماً. أخذوه من الموقع الذى ضربوه فيه واقتادوه الى أحد الفنادق ببنغازى واحتجزوه فى إحدى الغرف ،وعندما أفاق من غيبوبته سمع أحدهم يقول للآخر" أصبح متاحا الآن قتل هذا اللعين الذى يرفض إطاعة أوامر سيدنا القذافى". جاءت كلمات هذا الشخص على أذن الدكتور محيى كالرصاص،ولم يجد أمامه سوى كسر زجاج نافذة الغرفة التى تم احتجازه فيها ليهرب قبل أن يقتله هؤلاء المجرمون ،لكنهم سمعوا صوت الزجاج ينكسر فقفذوا خلفه وألقوا القبض عليه ،وانهالوا عليه بالضرب المبرح أمام الفندق،فتغيب عقله حتى وصل الى مستشفى السلوم المركزى ،وانتهى به الحال إلى العودة غلى بلده مرة أخرى ليتحدى أعوان القذافى ويساهم فى علاج ضحايا الثورة الليبية. لم تمر دقائق على رحيل الدكتور محيى حتى وصلت سيدة ليبية تعرضت لكسور شديدة فى كل أنحاء جسدها وتدعى عزيزة مراجع المهدى تم إرسالها إلى معبر السلوم البرى من خلال إحدى القوافل الطبية المصرية التى وصلت إلى بنغازى. مرت 5 ساعات على وصول عزيزة التى رقدت فى غرفة العناية المركزة وكانت الساعة تشير إلى الخامسة صباحاً،اقتربنا منها لنسألها عما تعرضت لها وتسبب فى إصابتها بهذه الطريقة ،لكنها لم تتمالك نفسها وانهمرت دموعها على خدها ،وقالت:"أنا كنت رايحه علشان أقدم واجب العزاء فى أحد أقاربى الذى توفى بطلق نارى فى صدره، وفور وصولى إلى سرادق العزاء إذ بمجموعة تقتحم السرادق وتلقى قنبلة على جميع الموجودين فيه ليتساقط الضحايا واحدا تلو الآخر وتتعرض لغيبوبة شديدة لم تفق منها سوى بعد حوالى 5 ساعات. رفعت عزيزة عينيها إلى سقف الحجرة التى ترقد فيها وأخذت تدعى على معمر القذافى والدموع تنهمر من عينيها وهنا طلب الأطباء منا أن نتركها لأن حالتها بدأت تسوء من جديد بسبب تذكرها ماحدث لها،فقررت الانصراف فوراً. محمود ودبدوبه والطفلة إسراء وأسرتها،والدكتور محيى الذى أصابه الجنون،والسيدة عزيزة،كل هؤلاء الضحايا سيكونون شهداء على العمليات الاجرامية فى حق ااابرياء ،دموعهم التى لم ولن تجف من على وجوههم لن تكون رخيصة.نعم لن يستطيعون القصاص من هؤلاء المجرمين ،لكن التاريخ الأسود للنظام الليبى هو من سيأخذ لهم حقهم بأن يذكر الفضائح عبرذاكرته ،ليستمر الحزن يكسو الوجوه ،ويبقى الثأر قائماً أمد الدهر.