أجمع عدد من المحللين الاقتصاديين علي أن كتاب أستاذ الاقتصاد السياسي الراحل، سامر سليمان، والمعنون ب"النظام القوي والدولة الضعيفة"، والذي صدرت طبعته الرابعة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة قبل أيام، يقدم إجابات غير تقليدية، عن الأسئلة حول الأزمة المالية لنظام مبارك، وفشل التنمية في مصر، وتقلص النفقات الموجهة للقوات المسلحة لحساب الشرطة لضمان السيطرة السياسية عبر أجهزة القمع، وكيف أدار مبارك الدولة خلال ثلاثين عاماً. وهي فترة شهدت مصر فيها تدهورات مالية وتقلصًا عنيفًا لموارد الدولة، تبعها تقلص قدرة النظام علي شراء الولاءات الاجتماعية بمعني ضمان ولاء الفئات المجتمعية المستفيدة من الدعم والخدمات التي تقدمها الدولة وزيادة نفوذ وأعداد معارضيه بدءاَ من أزمة 1989 التي شارفت فيها مصر علي الإفلاس ونجا منها النظام بمعجزة تحرير الكويت، وصولاً إلي النهاية الحتمية للمسار المأزوم في يناير 2011، حيث لم تعد الظروف الدولية والإقليمية تسمح بمنح معجزة جديدة لنظام مبارك تسمح بإنقاذ اقتصاده المتعثر وأصبحت الظروف الاقتصادية ضاغطة علي المجتمع بشكل أدي لإنفجار الأوضاع. وفي ندوة أقيمت بمؤسسة سامر سليمان، التي تفتتح في الثامن والعشرين من سبتمبر الجاري، ناقش المرشح الرئاسي السابق وعضو المجلس الأعلي للأجور خالد علي، والكاتب الاقتصادي، وائل جمال، والباحث الاقتصادي، محمد جاد، أطروحات الكتاب علي مدي ساعتين، طرحت فيهم القضايا الرئيسية بالكتاب وخبايا حصول سامر سليمان علي معلومات وأرقام الموازنة العامة والحساب الختامي للموزانة، من داخل مجلس الشعب، أوائل الألفية الجديدة، في وقت لم يكن يسمح فيه الإطلاع علي تلك الوثائق بسهولة. وصدرت الطبعة الأولي من الكتاب عام 2004، وتضم رسالة الدكتوراه التي حصل عليها سامر سليمان، الذي رحل عن عالمنا في 23 ديسمبر 2012 بعد فترة وجيزة من الصراع مع مرض السرطان. ويبين سامر سليمان، كيف اعتمد نظام مبارك علي الاقتصاد الريعي، وتوزيع موارد الدولة لشراء ولاء القطاعات المجتمعية، إلي أن تقلصت موارد الدولة واضطر لاستعمال القمع والمواجهات المسلحة كبديل. يضع سامر سليمان، في كتابه الذي يغطي الاقتصاد المصري منذ نهاية عهد السادات وحتي منتصف العقد الأول من الألفينيات، مبارك في صورة تختلف عن تلك التي تصوره كرجل معدوم الكفاءة، بحسب خالد علي، بغض النظر عن أي الجهات التي صبت فيها هذه الكفاءة، سواء لصالح النظام ضد الدولة، أو لصالح طبقات رجال الأعمال، علي حساب الطبقات الفقيرة والمعدمة، فعلي مدار ثلاثين عاماً مرة مصر بأزمات مالية طاحنة مر منها النظام بمعجزة في كل مرة، وهو ما يشير إلي كفاءة ما لمبارك في عبور الأزمات دون أن يسقط نظامه علي مدي زمني واسع ثلاثين عاماً، فقدرته علي البقاء طوال هذه المدة رغم التحديات الدولية والإقليمية، تشير إلي كفاءة ما. لكن نظام مبارك اعتمد ألاعيب مالية يوضحها سامر في كتابه سردها الباحث محمد جاد، لمحاولة تعويض تقلص الإيرادات، و تتركز بشكل رئيسي في الإنفاق علي أدوات السيطرة المادية المباشرة، لأجهزة الأمن والتي اقتطعت جزءاً كبيراً من موازنة الدولة، والإنفاق علي أدوات السيطرة الناعمة ممثلة في وزارتي الثقافة والأوقاف، إضافة إلي تعيين موظفين جدد بالحكومة. ولجأ مبارك إلي تلك الحيلة بالإنفاق الباذخ علي الأمن، كما يشرح الكاتب الاقتصادي وائل جمال، بعدما فشل في شراء ولاء الناس له عبر الإنفاق علي الدعم وقطاعات التعليم والصحة والتنمية في الصعيد، فكان البديل لشراء الولاءات بعد تقلص موارد الدولة، هو المواجهة المسلحة مثلما فعل في الصعيد. ويري وائل جمال أن الكتاب يضع أزمة مصر المالية التي بدأت منذ 1986 واستمرات حتي حوالي العام 1990 كنموذج مثالي علي الأزمات التي مر بها نظام مبارك، ففي تلك الفترة عانت مصر من أزمة مالية طاحنة وشارفت بالفعل علي إعلان إفلاسها وعجزها عن سداد الديون، لولا أن جاءت المعجزة، بمشاركة مصر في التحالف الأمريكي لتحرير الكويت، وهو ما كافئتها علي الإدارة الأمريكية بشطب نص ديون مصر الخارجية، وهو ما أدي لانتعاش نظام مبارك، وعلي هذا النهج حلت الكثير من أزمات نظام مبارك، لكن هذا المسار المأزوم لم يكن ليستمر، وهو الأمر الذي توقع سامر سليمان بسببه قدوم لحظة انهيار تحدث تغيير في التركيب السياسية والاجتماعية. ويقدم الكتاب تميزاً واضحاً بين الدولة والنظام، وكيف أن النظام الذي يشكل المجموعة الحاكمة للدولة التي هي مجموع المؤسسات والروابط الاجتماعية، عمل علي تقوية نفسه علي حساب التنظيم الأعم "الدولة"، في كل خطوة لتدعيم حكمه، فكانت كل خطوة علي طريق تدعيم النظام هي خطوة علي طريق إضعاف الدولة وقدرتها التنظيمية. وقد بدأت مشكلة مبارك الحقيقة كما يقول وائل جمال بسبب اعتماد النظام علي علي كونه دولة ريعية، تراكم إيراداتها عبر قناة السويس وإيرادات البترول، وهي مصادر تمويل لا يمكن التحكم فيها تماماً، فالوزن النسبي لقناة السويس انخفض مع زيادة عدد السكان، وأيضاً نضوب البترول ساهم في انخفاض إيرادات الدولة بشكل مطرد. وأدى الأفول المتزايد، كما يشرح سامر سليمان في كتابه، لموارد الدولة إلي عجز النظام عن شراء الولاءات الإجتماعية، وهو ما أفقد النظام أهم أدواته للسيطرة. ويشرح كتاب "النظام القوي والدولة الضعيفة"، الأدوات والوسائل التي اعتمد عليها، مبارك لإدارة أزمته المالية، بفرض ضريبة المبيعات والتي تأتي علي حساب الطبقات الفقيرة. كما لجأ إلي تغيير التحالف الحكام بإبعاد المجموعة القديمة عن مركز الإدارة، مثل صفوت الشريف وكمال الشاذلي، وضم رجال الأعمال إلي التحالف الحاكم أملاً في استعمال قدرتهم علي شراء الولاءات الاجتماعية ولكن هذا لم يحل المشكلة، مع تفاقم الدين العام وعجز الموازنة علي الإنفاق حتي علي البنود التي توفر السيطرة للنظام. ولم يجمع سامر سليمان، معلوماته من دوائر وأبحاث أكاديمية فقط، ولكنه بني تحليله علي أرقام رسمية بالموازنة العامة والحساب الختامي، وهي ليست مجرد أرقام ولكنه تعبير عن انحيازات اجتماعية لنظام مبارك. وجمع سامر تلك الأرقام كما يقول خالد علي الذي كان يعرفه بشكل وثيق، عبر صفته الصحفية التي مكنته من دخول مكتبة مجلس الشعب والإطلاع علي الحساب الختامي للموازنة والذي كانت تخفيه الدولة ، وكان يقوم بكتابة الأرقام علي أوراق صغيرة حيث لم يكن مسموحاً له بالحصول علي نسخ من تلك البيانات. ومكنت هذه الأرقام سامر سليمان من الإجابة علي أسئلة كانت مفتاحية في تحليله، حول كيف تجمع الإيرادات وكيف تنفق وما هي انحيازات الإنفاق الاجتماعية. وعبر تلك الأرقام تمكن سامر سليمان من حساب الإنفاق الواسع علي قطاع الأمن والشرطة والذي ازدهر عقب إبعاد مبارك للمشير أبو غزالة. ويري سامر في كتابه أن إبعاد المشير أبو غزالة بعد الصراع بينهما كان إيذاناً بخفض الانفاق علي القوات المسلحة وتوجيه الإنفاق إلي قطاع الشرطة تحت بند "السيطرة السياسية" الذي حمل هذا الإسلام بالحرف، لكن الجيش كان قد تمكن من بناء إمبراطوريته الاقتصادية في الثمانينيات بالفعل. ورغم سقوط نظام مبارك إلا أن السياسيات الاقتصادية التي اتبعتها الحكومات لم تختلف عن سياسات نظام مبارك، بحسب خالد علي ووائل جمال، ولا أدل علي ذلك من تعديل قانون المزايدات والحد الأدني من الأجور، وهي قوانين تمثل رسائل سياسية الأول لقطاع رجال الأعمال الذي استفاد من فساد نظام مبارك، والثاني موجه للقطاعات التي يحتاج النظام الحالي ضمان ولائها. ويري خالد علي، أن محمد مرسي، وجماعة الإخوان المسلمون حظهم سئ لأنهم ربما لم يقرأوا كتاب سامر سليمان، ولم يتعلموا التوازن الضروري بين قوة الإرغام والإقناع والتعامل مع الدولة ككيان مختلف عن النظام.