تشهد تركيا منذ 7 أيام، مجموعة من المظاهرات التي انطلقت من حديقة "جيزي" في إسطنبول، وتطورت إلى اعتصامات شبيهة بتلك التي شهدتها كل من مصر وتونس عام 2011، حيث اعتصم المتظاهرون في ميدان "تقسيم" بإسطنبول. كما شهدت عدة مدن أخرى كأزمير وأنقرة مظاهرات، تضامنًا مع متظاهري "تقسيم" الذين تعرضوا للعنف من قبل قوات الأمن التركية، ولم تخلوا مظاهرات المدن بدورها من اشتبكات مع قوات الأمن، وسقوط عدد من الجرحى فاق الألف جريح. ويثير اندلاع المظاهرات الأخيرة في تركيا، تساؤلات حول ما إذا كانت نهاية حقبة الإسلاميين قد تبدأ من تركيا، وليس من تونس، حيث انطلقت شرارة الثورات العربية، خاصة أن هذه المظاهرات تأتي بعد اتباع الحكومة التركية العديد من السياسات التي أدت إلى استعداء الليبراليين الذين سبق ودعموا الحكومة، وهي سياسات هدفت إلى تقليص الطابع العلماني للدولة، وتقييد الحريات، والسيطرة على الجيش التركي، الذي لعب تاريخيًا دور رئيسي كحامي ل"الديمقراطية العلمانية" في تركيا. فعلى سبيل المثال، تم إقالة حوالي 86 من قيادات الجيش في 2008 بتهمة التدبير لانقلاب عسكري، كما تمت محاكمة 200 من قيادة الجيش التركي في ديسمبر 2010 بتهمة التخطيط لعملية "المطرقة" التي هدفت لخلق الأجواء الملائمة للانقلاب على الحكم في 2003. وأطلق بعض المحللين على تلك السياسات اسم "الحرب المناهضة للدولة العميقة"، في إشارة إلى بقايا الدولة التي أسسها "أتاتورك" ذات الطابع العلماني، والتي تعمل ضد المشروع الذي يتبناه حزب "العدالة والتنمية"، وبالتالي، يعد قرار تحويل الحديقة إلى مجمع تجاري وثقافي، والذي أشعل هذه المظاهرات مجرد فتيل لا يعبر عن السبب الحقيقي للمظاهرات، حيث إن أسبابها مرتبطة بتأثيرات السياسات التي اتبعها "أردوغان" منذ وصوله للسلطة عام 2002، وتركت انطباعًا لدى الأتراك بأنه لن يترك منصبه، وأنه يستعد لأن يكون رئيس مدى الحياة. وتكمن أهمية هذه المظاهرات في تأثيراتها على صورة تركيا الإقليمية، خاصة أنها جاءت في الوقت الذي تنتقذ فيه الحكومة التركية بشدة سياسات الأسد التي تقمع المعارضة، وتقدم في الوقت نفسه الدعم المالي والدبلوماسي والعسكري للمعارضة السورية، مما يجعل شرعية النظام التركي محط تساؤل. كما اندلعت هذه المظاهرات في الوقت الذي تطرح فيه تركيا نفسها ك"نموذج" يحتذى من قبل دول الثورات العربية، فمنذ اندلاع ثورات الربيع العربي نهاية 2010، ظلت تركيا النموذج المستقر، الذي يمكن أن تتبعه النخب الجديدة في كل من تونس ومصر بصورة رئيسية، خاصة فيما يتعلق بنموذج التنمية الاقتصادية، حيث تعد تركيا من الدول القليلة التي نجحت في الحفاظ على معدل تنمية معتدل نسبيا، حيث بلغ متوسط معدل النمو السنوي 5%. كما نجحت الحكومة التركية في دفع القرض الخاص بصندوق النقد الدولي، وفي تقديم مساعدات مالية لمصر بعد الثورة، حيث أعلن وزير المالية المصري السابق ممتاز السعيد في سبتمبر 2012 عن تقديم تركيا مساعدات لمصر بقيمة 2 مليار دولار لدعم الاحتياطي النقدي الأجنبي، وللمساهمة في مشاريع تنمية البنية التحتية في مصر، وتم رفع قيمة هذه المساعدات في مايو 2013 بقيمة 250 مليون دولار، لتبلغ 2 مليار و250 مليون، وتم الاتفاق على توجيه المبلغ الإضافي من أجل تمويل استيراد سلع رأسمالية تركية وتنفيذ مشروعات في مصر بواسطة الهيئات العامة في مصر من خلال شركات تركية. كما تعد تركيا من الدول التي نجح فيها الإسلاميون ممثلين في حزب العدالة والتنمية في الحفاظ على شرعية ما لنظام الحكم، من خلال اتباعهم سياسات تضمن سيطرتهم على مؤسسات الدولة الرئيسية، كما لعب هذا الحزب دوراً في اقناع الدول الغربية، خاصة الولاياتالمتحدة، أنه من المهم أن تتاح الفرصة لقوى الإسلام السياسي ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين في مصر وتونس لتصل للحكم، حيث إن انتماءها للإسلام السياسي لا يعني بالضرورة عدم قدرتها على إدارة شئون دولها، مقتربًا في ذلك من موقف أمير قطر، الذي "روج" لدى الدوائر الغربية لفكرة أن الديمقراطية في دول الثورات العربية يمكن أن تتحقق من خلال دعم وصول جماعة الإخوان للسلطة باعتبارها القوة الأكثر تنظيمًا . واستمرار حالة عدم الاستقرار في تركيا، قد تؤثر سلبًا على قدرتها فى دعم صورتها في الإقليم كنموذج يحتذى به، خاصة أن كيفية إدارة الحكومة التركية للمظاهرات كشفت عن تبنيها المدخل الأمني في التعامل مع المظاهرات، وهو ما يقوض من صورتها كدولة ديمقراطية قادرة على الحوار مع المعارضة، والأهم أن استمرار مثل تلك المظاهرات قد يترتب عليه تراجع النشاط التركي في المنطقة.