عاصرت العمة زكية، التي تعيش بإحدى قرى قنا، 3 ثورات في مصر بداية من ثورة 1919، عندما كان عمرها 11 عامًا، كما عاصرت ثورتي يوليو 1952م وثورة يناير 2011. إلا أنها لا تعرف أي شىء عن أي ثورة فتلك الأنثى التي تجلس يوميًا أمام منزلها بعد أن تستيقظ كي تستقبل أشعة الشمس فتمنحها الدفء.. تؤمن أن مصير الأرض في الماضي والحاضر لم يتغير مادام هناك فقراء. زكية التي لم تذهب لطبيب طوال عمرها المديد تؤمن أن قرص الأسبرين وخاصة "البرشام الأخضر" كما تسمى "الريفو" كما تحب أن تنطق هو المُسكن لأوجاعها فقط وهو نعمة كبري للبشر الذين لم يعرفوا كيف يؤدي الفقر للموت، متذكرة والدتها وكيف أماتها الفقر وهي تقاوم مع والدها العيش في حياة صعبة دون أن تحلم بقرص الإسبرين أو بالذهاب لطبيب ودون أن تعرف حتى أن هناك أطباء يداوون من الأوجاع. تقول زكية ل"بوابة الأهرام ": إنها تزوجت ب4 جنيهات فقط لافتة بلهجتها الصعيدية "الناس زمان ماكانتش لاقيه أغطية وبطاطين، بس الحق يتقال ماكانش البرد زى دلوقتي وكان اللي معاه حاجه يعطيها لأخوه وميبخلش بيها.. بس برضه كانت الفلوس فلوس وكانت ال5 جنيهات تخلي أي راجل يعيش لمدة سنة في بيته مستور وتخليه زي البشوات أمثال فاروق والنحاس والجنيه الواحد كان يساوي 100 جنيه" تتحسر وتستغرب الجدة أن بعض أحفادها يقول الجنيه مبقاش يجيب حاجه". العمة التي امتد عمرها لتعاصر 5 أجيال من أحفادها لاتذكر فيهم إلا القليل رغم أنهم يصممون علي زيارتها وتحيتها بلقب ياجدة ولكن الجدة زكية التي تنسي ملامح أحفادها وأسماءهم لا تنسي إطلاقًا عادتها اليومية كل شتاء وهي عادة تصر عليها منذ سنوات طويلة وهو الاستيقاظ فجرًا ثم الذهاب إلى بيتها كى تقوم بإحضار الحطب والأوراق كي تشعل فيهم النيران، تدفئ نفسها جيدًا قبل أن تقوم بالجلوس في الشمس أمام منزل ابنها لا تنشغل بتحية العابرين بقدر أنها تنشغل بغرس عودة صغيرة من حطب في التراب الذي تخط عليه سارحة وشاردة في ذكريات لا تبوح بها لأحد حتى لمن يريدون الجلوس جنبها والحديث معها. عليك ألا تسأل زكية وهي تجلس في الشمس، ماذا تبقى من ذاكرتها؟ فكل سؤال تسأله ستقوم هي بالاستفسار عنه، إلا عدة أشياء تكون ذاكرتها يقظة وحادة وهي سيرة أمها التي ماتت من عناء الفقر وهي سيرة تجعلها تضحك وتصير كطفلة بريئة وهي تتحدث عنها ثم سيرة العمد ومشايخ البلاد التي ترى أنهم الوحيدون الجديرون بالبقاء في الذاكرة لسبب وحيد تقوله لك "أصل يا ولدى البلاد من غير كبار يضيع فيها حق الغلبان والغلابة في بلادنا كتار قوي" ثم سيرة الوشم الموجود علي وجهها "أصل يا ولدي دا كان زينة زمان وكانوا يحطوه لينا قبل الجواز". تتحدث زكية عن "خير زمان" قائلة: " ياولدي الناس زمان كانت تروح الزرع تلقط أي حاجه وتطبخها وتأكلها لكن زمان اللي ماكانش فيه خير وفلوس، كانت فيه صحة المرض وأصبح في زماننا كتير قوي" مشيرة إلى أنها لاترفض أي طعام يقدم إليها إلا بعد طبخه بالسمن البلدى، فهو الذي يمنح الصحة والعمر ولايجعل الإنسان مريضًا إلا أنها تؤكد أيضًا أن السمن البلدى بتاع زمان كان أفضل لأنه ليس فيها كيماوي وأسمدة مثل الآن. تضحك زكية وتقول لك: "أصل أسناني لسه ماخضرتش" مشيرة إلى أنها لا تعشق مشاهدة التلفزيون ولا تريد سماع الراديو وأنها لاتتذكر حكام مصر ولا تريد أن تذكرهم أو أن تعرفهم: "أنا يا ولدي أؤمن بس أن البلد أي بلد مافهاش كبير.. الغلبان حقه يضيع" ثم تذهب لتجلس في الشمس تغرس عود حطب في التراب ولا تهتم بشيء حتى بتحيات العابرين وهي لا تكاد تشعر بهم.