يجلس وسط تخته الخاص، تزين الخواتم الثمينة أصابعه، يرتدى الطربوش الاسطنبولي، ويمسك في يده اليمنى سبحة كهرمان ويفرك باليسرى قطعة من العنبر بينما يغنى أغانيه أمام الخديوي الذي اشترط عليه ألا يغنى سوى بقصره، هو رائد من رواد الطرب الأصيل وأستاذ الجيل فى الغناء العربى، زعيم الطرب العربى واعظم الأصوات فى التاريخ الغنائى، وأول من لحن القصيدة التقليدية وكون تختا موسيقيا خاص به هو المطرب الذي جمع بين المزاج المصرى والمزاج التركى بطابع شرقى، سيد المغنين والملحنين، فارس الطرب، لم تكن رحلة صعوده سهلة. وُلد عبده الحامولى بمحافظة طنطا فى 18 مايو 1836 وهو التاريخ الذي اتفق عليه المؤرخون؛ نظراً لعدم وجود تسجيلات رسمية في ذلك الوقت، وترجع اصوله إلى قرية الحامول التابعة لمركز منوف بمحافظة المنوفية كان والده تاجرا للبن، أرسله والده إلى الكتاب لحفظ القرآن، إلا أن الغناء جذبه فأهمله، نشأ على سماع كبار المقرئين بمسجد السيد البدوي، وشهد ليالي مولده التي تمتد لشهر كل عام حول المسجد، تشاجر والده مع أخيه الأكبر الذي قرر ترك المنزل واصطحب عبده معه إلى القاهرة. هام الخامولى وشفيقه بين الطرقات والخلوات، وكلما تعب الصغير من المسير حملة اخيه على كتفه، حتى عثر عليهما رجل اسمه المعلم شعبان يعزف على القانون ويعمل في مجال الغناء في طنطا فاستضافهما وسمع بالصدفة صوت عبده وأعجب به، فعاد بهما إلى طنطا وعملا معه بالغناء. قرر شعبان النزول به إلى القاهرة، واشتغل في قهوة عثمان أغا بالازبكية، وهي من أشهر المقاهي آنذاك، فكان فاتحة خير على المعلم شعبان الذي زاد رزقه، فخاف أن يتركه ويذهب إلى غيره من العاملين بتلك الصنعة، فرأى أن يربطه بالزواج من ابنته، وفرح الحامولى فى بداية الأمر ولكن سرعان ما أيقن انه سيظل محلك سر. أعجب بصوته محمد المقدم وهو من أشهر العاملين بالغناء في وقته، فسعى إليه حتى نجح في ضمه إلى تخته وفصله عن زوجته وانقذه من سوء معاملة يلقاها على يد المعلم شعبان. تعرف عن طريق الصدفة على شاكر أفندي الحلبي أحد حفظة الموشحات والادوار فتلقى على يديه اصول الغناء وتقرب منه، وطبقها أثناء غنائه في تخت المقدم ، وذاع صيته لجمال صوته وحقق شهرة واسعة فى عالم الغناء وكوّن فرقة موسيقية خاصة به وقام الشيخ محمد عبد الرحيم ومحمد عثمان بالتلحين له. وصل صيته للخديوى إسماعيل الذي أعجب بصوته وضمه لحاشيته وأصبح من المقربين له وقدم له الهدايا الثمينة ومنحه يخت خاص وسافر معه الى الاستانة، وهناك بدأ الحامولى فى تطوير فنه واستمع إلى الموسيقى التركية وعمل على مزج الفن المصرى التركى على أن يحمل الطابع الشرقى والتقى بالفرق وكبار المطربين الأتراك والمنشدين المشهورين بأولاد الليالى (الفقهاء) والعوالم (القيان) والمداحين( الضاربين بالدفوف)، وحضر معهم حفلاتهم ليتعلم منهم ويقتبس ما يراه ملائما للفن المصرى ويضم الألحان التى تناسب الروح المصرية فادخل على الموسيقية المصرية مقامات لم تكن مستخدمة فى عهده مثل "النهاوند ، العجم، الحجاز كار، وغيرهم"، وأصبح شيخاً على على شيوخ الغناء في مصر الذين استنكروا طريقته الجديدة أول الأمر، ثم ذاق الناس حلاوتها واستحسنوا. ارتقى بمستوى الكلمة الغنائية فتعامل مع أعظم الشعراء مثل محمود سامى البارودى، والشيخ عبدالرحمن قراعة، وإسماعيل صبري، وأديب اسحق؛ لذلك جمعت أغانيه ما بين رقة الكلمات وجمال الألحان ومن أهم اغانيه "عزيز حبك، حبك ياسلام، غرامك علمنى النوح، وغيرهم"، كان له العديد من الاغاني الشعبية مثل "سالمة ياسلامة، ياليلة بيضا، وحوى يا وحوى، ويابتاع النعناع يا منعنع". تميز أنه شديد الطرب، لا يقل طربة أثناء تأديه للغناء عن طرب السامع له، واصطحب حركة الغناء بالإشارات التي تقوم مقام الحكاية، وكان شديد الحفظ لما يسمع ويجتهد دائماً في استخراج الجميل منه وترك المعيب بل لديه القدرة على استبدال السيء بالحسن، وذهنه يتعلق بالنغم فلا ينساه، حتى لو نام وسط التخت ثم استيقظ يعود إلى الغناء كما كان فيه دون مراجعة أحد. شارك فى جميع الأفراح والمناسبات الوطنية وقام بالغناء فى زفاف سعد زغلول عام 1897، وشارك فى الحفل الرسمي لافتتاح قناة السويس فى أواخر القرن الماضى، كما قام بالغناء فى العديد من المسارح وغنى على مسرح الأوبرا عام 1885، اشترك بالغناء فى فرقة أبو خليل القباني المسرحية، وأحيا بعض الحفلات بقصر "يلدز" السلطانى بالاستانة في 1896 بمناسبة عيد جلوس السلطان عبد الحميد فكرمه ومنحه الكثير من الأموال. هو أول فنان يقوم بتدوين ألحانه فى نوتة موسيقية ويسجل على الميكروفون بعض أغانيه الشهيرة، وأول من لحن قصيدة أبي فراس الحمداني "أراك عصى الدمع" فأصبح من ألمع فناني القرن التاسع عشر ولمدة أربعين عاما، وتنافس في غنائها بعد وفاته 11 مطرباً وسجلها تسعة منهم على اسطوانات شركة جراموفون، وسجلها للإذاعة صالح عبد الحى، وسجلتها أم كلثوم على أسطوانة لشركة أوديون في 1926م، كما لحنها الحامولى ونقلها عنه وسجلها على أسطوانة الشيخ أبو العلا محمد. سجل بعض أعماله على لسطوانات شمعية قبل وفاته، إلا أنها كانت رديئة فلم تنتشر بشكل واسع، ولكن بقى عدد منها حتى اليوم، افتتح شركة لتجارة الأقمشة شارك فيها احاد التجار بمبلغ عشرين ألف جنيه، إلا أنه لم يستمر سوى عشرين شهراً وخرج منها مديناً للشريك دائناً للناس وخجل أن يطالب بالوفاء به. قدمت السينما المصرية فيلم يحمل اسم "المظ وعبده الحامولى" وأنتج التليفزيون مسلسل عن قصة حياته بعنوان "بوابة الحلوانى"، ظهرت ألحانه و أغانيه للوجود مرة أخرى بعد وفاته بحوالي سبعين عاما عن طريق فرقة الموسيقى العربية التي أنشأها عبد الحليم نويرة عام 1967م وطبعت الألحان على اسطوانات ولاقت قبولا كبيرا، له منزل خاص باسمه شارع يحمل اسمه بحى العباسية وأطلق اسمه على احدى شوارع الاسكندرية. تزوج خمس مرات الأولى من ابنة المعلم شعبان وانفصلا، والثانية المطربة سكينة الشهيرة بألمظ التى التقى بها فى احدى الحفلات الغنائية وارتبط بها بعد أن كانت المنافسة الأولى له وبينهم عداوة فنية كبيرة وكانت ليلة زفافهم ليلة خالدة وحضرها الخديوى إسماعيل، وحزن عليها عند وفاتها وقام بالغناء لها، والثالثة سيدة من قسم الخليفة وأنجبت له ابنه محمود، والرابعة رزق منها بناته، والأخيرة سيدة تركية اسمها جولنار هانم وانجبت له ابنه محمد الذى كان فى الرابعة من عمره عند وفاته. أصيب الحامولي بالبول السكري بعد عودته من رحلته إلى الآستانة؛ مما أضعف قوته وانهك جسمه، فترك سكنه بحلوان إلى القاهرة، ثم أصيب بالسل وزاد درجته إلى ما لايُرجي شفائه، ونصحه الأطباء بالسكن في الصعيد فترة الشتاء، فأقام بسوهاج لشهرين ونصف، وبالفعل تحسنت صحته وعادت له بعض قوته وزاد أمله بالشفاء، فعاد إلى القاهرة ليسجل أغانيه على اسطوانات، وجاءه خبر وفاة أحد الأصدقاء بالمنيا، فسافر لتأدية الواجب، واشتد به المرض عند عودته، وتوفى فى 12 مايو 1901م، ورثاه أمير الشعراء أحمد شوقي بقصيدة ساجع الشرق تولى عن أوكاره.