أعظم أفعال الإنسان اعترافه بخطيئته، فعلى إثره تكتب النجاة لجميع المحيطين به، فإصراره على عدم الندم يضاعف من آثار خطئه، وأبونا آدم وأمنا حواء هما أول من أسسا مفهوم النقد الذاتي، والاعتراف بذنبها، وعلى الطرف الثاني كان تعنت الشيطان وكبرياؤه، والنقد الذاتي صفة العظماء، وهناك من يقضون حياتهم بحثًا عن الحقيقة، ويصححون أخطاءهم دائمًا دون تردد. وقال عمر بن الخطاب رضي عنه: رحم الله امرئ أهدى إليَّ عيوبي، وقال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وقال الفيلسوف والشاعر فولتير: يجب أن تخجل من ارتكاب الخطأ وليس من الاعتراف به، ونجى بحياته حين أقر بفعله السيئ، وأفضل مثال لهذا وقتما قال يونس عليه السلام: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. والنقد الذاتي ليس مقصورًا على الفرد بل منوط به الأمم المتحضرة، وذلك من خلال فتح حوارات متواصلة مع الهيئات المجتمعية ومع جميع شرائحه، حتى نتخلص من الجمود الفكري، ونبني مؤسسات تقوم على النهج العلمي، تربي شبابًا جادًا، يصوب من أخطائه، ويستفيد منها. والأمر البالغ في الأهمية أن تربع دول على عرش التقدم مثل ألمانيا وكندا وأمريكا، جاء بفضل إيمانها بثقافة تقبل الخطأ والفشل وإعادة تصحيحه، ولديها يقين أن التجربة الفاشلة تمهيدًا للنجاح، وأنها تمنح الشباب المبدع من جميع الجنسيات فرصًا لتكرار تجاربه، واستطاعت بهذا النهج توفير بيئة تحتضن صناعة ذات تكنولوجيا فائقة الذكاء. وللأسف من الناحية الأخرى أمتنا تتراجع، وننظر بنظرة الانبهار إلى أمم في الغرب وفي الشرق، ونستهلك منتجاتهم، ولا نتبع خطواتهم التي تجعلهم يصعدون يومًا بعد يوم، وهم يملكون حب النجاح، ويكرهون الإصرار على الخطأ إذا كان عائقًا أمام تقدمهم. والتغيير يبدأ من النفس ومحاسبتها، وبناء المجتمع وتحضره يقوم على تقويم الفرد، والرسول والصحابة من حوله لم يتفرغوا فقط للعبادات وإطلاق اللحى، إنما أقاموا دولة مدنية اتبعت المنهج العلمي، والتزمت بنقد الذات، فقد عاتب الله رسوله، وحررت الإنسان من جموده الفكري، وبفضل هذا النهج امتدت الأمة الإسلامية شرقًا وغربًا. ونقد النفس ليس بالأمر الهين، فصاحبها يروضها كترويض الوحش الثائر، ولذا أقسم المولى عز وجل بالنفس اللوامة عقب قسمه بيوم القيامة، ومن خلق الأقوياء ومن شيم الرجال إعترافهم بالخطأ، وعلامة عن الثقة بالنفس التي لا يتصف بها إلا الكبار، الذين لديهم القدرة على مواجهة الآخرين بكل شجاعة وأدب. ونقد الذات يتناقض تمامًا مع جلد الذات، فالأخير مبالغة في اللوم، ويعد شعورًا سلبيًا، وليس طريقًا للمواجهة، والإنسان السعيد هو المتصالح مع ذاته، ويتسم بالروح الرياضية، ويقبل نقد الآخرين، حتى يتخطى فشله. وموقف أبوبكر رضي الله عنه عندما أحزن ربيعة خادم رسول الله ينم عن خلق العظماء، برغم أن ربيعة عفا عنه، وكذلك أقر الرسول له بغفران ذنبه، غير أنه كان مصرًا على رد ربيعة له بنفس الإساءة، وهذا الدكتور مصطفى محمود يندم على معتقداته السابقة. وكم من مشاكل تنخر في مجتمعاتنا، بسبب التعنت والإصرار على الخطأ رغم ثبوت الفشل، وإنهيار الأسر وتفككها من أهم أسبابه استمرار أحد طرفي العلاقة الزوجية على المضي في أخطائه، والاعتراف بالخطأ والاعتذار، لا يتعارض مع الكرامة، وينشئ جوًا من التسامح. Email: [email protected]