ابونا آدم وأمّنا حواء أول من أسس مفهوم النقد الذاتى واعترفا بخطيئتهما.. وأصر الشيطان على عناده وكبريائه.. ورسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) ونحن فى ذكرى مولده عاتبه الله فى أكثر من موقع للتصحيح والاستفادة من الأخطاء.. فالنقد الذاتى صفة العظماء الأحرار وهناك أناس قضوا حياتهم بحثا عن الحقيقة.. وكان عمر رضى الله عنه يقول «رحم الله امرئ أهدى إلى عيوبى»، وقال «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا».. والنقد الذاتى ليس مقصورًا على الإنسان بل يجب أيضا أن تمارسه الأمم المتحضرة وتطرح حوارًا دائمًا ومتواصلاً مع مختلف شرائح المجتمع وإزاحة الحواجز النفسية، وتحاول التخلص من الجمود الفكرى والتخلف وبناء مؤسسات تقوم على المنهج العلمى وتدفع بالعلماء والمفكرين لتربى شبابا على أسس جادة فى البحث والدراسة والعمل.. وللأسف مازالت أمتنا تتراجع بعدما كنا نملك الدنيا فى القوة والأخلاق والعلم والآن ننظر إلى غيرنا من الأمم سواء فى الغرب أو فى الشرق بعين الانبهار ونأكل ونركب ونرتدى ونشرب منتجاتهم وتلذذنا بالتبعية والأكل على موائد الآخرين ولا نحاول أن نحرك ساكنا إلا من رحم ربى.. مما يعنى أننا لا نمتلك إرادة تغيير أنفسنا لأن البداية للتقدم تبدأ بالنفس وقال تعالى: (إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ويجب أن ندرك عند التغيير أن بناء المجتمع يقوم على تقويم الفرد. ونتطلع ونتمنى أن تبدأ أمتنا فى المنافسة وتصحيح مسارها ويكون احتفالنا بالعام الجديد 2016 بداية الانطلاق ورأب الصدع.. والرسول (صلى الله عليه وسلم) والرجال من حوله لم يتفرغوا فقط للعبادات من صلاة وصيام وزكاة وإطلاق اللحى بل أقاموا دولة مدنية بالمعنى الحضارى وأنشأوا الدواوين وزرعوا وأخذوا العلم بفروعه مسلكا حتى صاروا إمبراطورية عظيمة تمتد شرقا وغربا.. والإسلام كذلك بدأ بتحويل فكر الإنسان من الجمود والتخلف والإيمان بالخرافات وهمجيته إلى إنسان متحضر راق صاحب خلق رفيع لا يظلم ولا يسب ولا يغش.. وكل ذلك فى خلال ثلاثة وعشرين عاما مدة رسالة الرسول (صلى الله عليه وسلم). وعندما يبدأ الإنسان بمحاسبة نفسه أو نقد ذاته فهو أمر عظيم وليس بالهين لأنه يقوم بترويضها كترويض الوحش الثائر ولذلك أقسم المولى عز وجل بالنفس اللوامة بعد قسمه بيوم القيامة.. ونقد الذات يتنافى تماما مع جلد الذات لأن الأخير مبالغة فى اللوم وشعور سلبى وليس طريقا للمواجهة.. والإنسان العنيد الذى يرفض النقد ويفرح بمن يؤيدون ويصفقون له على طول الخط، للأسف يقدمون له معطيات وأسباب الفشل الذريع، ولا يعنى أن كل من يصفقون له منافقون بل قد يكون منهم محبون ولكن كما قالوا مرآة الحب عمياء، فالنجاح لا يقاس بالعواطف.. فالإنسان السعيد من حقق إنجازات واضحة فى الحياة وسعى فى تحقيق أهدافها، وهو من يتسم بالروح الرياضية فى تخطى فشله وفى قبول نقد الآخرين.. والكبار فقط دون غيرهم لا يعيبهم الاعتراف بخطئهم ويتميزون برجاحة العقل والثقة فى النفس، والجاهل أو الصغير الذى يعتقد أن إقراره بالخطأ يعنى أنه ضعيف وعديم الكفاءة ثم يدفع بالتبرير ويتعصب لرأيه وقال الله تعالى فيه: (وكان الانسان اكثر شئ جدلا).. فلا نتعجب من موقف أبو بكر رضى الله عنه عندما قال لربيعة بن كعب خادم الرسول (صلى الله عليه وسلم) كلمة بسيطة فى حقه أسرع وألح فى طلب ربيعة بالرد عليه فأبى فاشتكاه إلى رسول الله فقال له يغفر لك الله يا أبابكر ثم رددها ربيعة وتولى أبوبكر يبكى لأنه لم يكفر عن ذنب عمله.. وفى عالمنا الحديث الدكتور مصطفى محمود ندم على معتقداته السابقة.. وقال نيلسون مانديلا: «الحكمة فى هذه الحياة ليست فى التعثر إنما فى القيام بعد كل مرة نتعثر فيها» وقال مصطفى الرافعى: «إذا لم تزد على الحياة شيئا فأنت زائد عليها»، وقال نابليون «الإرادة القوية تقصر المسافات».. وحتى نقد الذات بين الزوجين أمر ضرورى فإذا ارتكب أحد الزوجين خطأ ما فى حق الآخر فلا يعنى إعلان الحرب وتحويل المنزل إلى ساحة قتال فالاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه لا يتعارض مع الكرامة ويقيم جوًا من التسامح بدلا من تجاوز إحصائيات الطلاق إلى أرقام بالأصفار والغريب أنه ينتشر بين حديثى الزواج. وأخيرًا الحكماء والدول الكبرى يراجعون أنفسهم دائمًا ويتعلمون من أخطائهم ويرحبون بنقد الآخرين لهم.