تتحدث جميع المصادر المهتمة بالاقتصاد المصري باتفاق عشوائي عن حقيقة أن زيادة معدل الاستثمار وجذب رؤوس الأموال بصفة عامة والأجنبية بصفة خاصة على أن يكون النصيب الأكبر للاستثمارات طويلة المدى وناقلة التقنية وموطنه التكنولوجيا وهذه الحقيقة هي السبيل الوحيد لاستثمار ما حققه الاقتصاد المصري قبل اجتياح الوباء للعالم مطلع العام الماضي حتى إن تقرير البنك الدولي حول توقعات النمو لعام 2021 والذي وضع مصر من الدولة القليلة القادرة على تحقيق معدل نمو إيجابي من 3 إلى 4 في المئة ربط ذلك بالقدرة على جذب استثمارات منتجة وإعادة هيكلة القطاعات المثقلة بالمشاكل والخسائر… وهذا الاتفاق يستدعي الكثير من المطالبات بشأن السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية الجاذبة لها وهو ما قطعت فيه الدولة شوطًا كبيرًا خاصة مع إجراءات معالجة تداعيات كورونا للحفاظ على مكتسبات برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تم إنجازه بنجاح في الفترة من 2016 إلى 2019.
ولكن القدرة على إنجاح سياسات الجذب الاستثماري تتطلب دورًا غائبًا وهو دور المجتمع الذي يفرز الموارد البشرية التي يعتمد عليها عمل هذه الاستثمارات المستهدفة.
وبمجرد التلامس مع هذه المنطقة تظهر مقولات عنترية من نوعية أن العمالة المصرية هي الأرخص وهي مقولة حق يراد بها باطل؛ لأنه إذا كان الأجر الرقمي قليلا في الحساب المجرد إلا أنه مرتفع جدًا وفق حسابات ربط التكلفة بالإنتاج أو بالعائد من هذا الإنتاج.
وأضف إلى ذلك انخفاض مستوى المهارات والخبرات الواضح وهو ما يجعل قرار الاستثمار مقلقًا؛ لأنه يعني عدم توافر القيادات المؤهلة ولنا أن نسأل أنفسنا سؤال مهم لماذا أصبحت الصين هي مراكز توطين صناعات التكنولوجيا لعمالقة وادي السيليكون الأمريكيين وقبل أن ننجرف للإجابات المتسرعة فالأمر لا علاقة له بالأجور التي تتميز بالضخامة في هذا القطاع الإبداعي ولكنه وفقًا لدراسات معلنة يرجع إلى امتلاك الصين لأكبر عدد من المهندسين والفنيين والتقنيين في مجالات التكنولوجيا مما يجعل المستثمرين أمام وفرة في الموارد البشرية المطلوبة.. ويضاف إلى ذلك ثقافة الشعب الصيني في تقديس العمل وحقه المطلق في الإتقان والإخلاص. هذا بينما في اتجاه مواز نجد سيطرة ثقافة الوظيفة الميري وتوقيعات الحضور والانصراف والبدلات والمكافآت وإهدار الموارد دون حساب هي الثقافة المسيطرة وهو ما جعل جميع المؤشرات بخصوص معدل البطالة غير حقيقية؛ لأنها تعتمد على المصادر الرسمية في حين أن سوق العمل الخاص سواء الرسمي أو غير الرسمي به ملايين الوظائف غير المرصودة عمدًا لأن العاملين بها يتعاملون عليها باعتبارها محطة انتظار لحين خلو وظيفة حكومية أو في شركات القطاع العام رغم أن مرتب الأخيرة قد لا يتعدى 25% مما يتقاضاه من وظيفته الخاصة، وذلك تحت مبررات غير منطقية حول ديمومة الوظيفة الحكومية وضمانات الأداء المريح مع البحث مرة أخرى عن زيادة للدخل عبر وظائف خاصة أو فرص عمل غير رسمية.
ولعل هذا يفسر ما نشهده من مناوئة للحكومة في تنفيذ برنامج إعادة هيكلة الأصول غير المستغلة في شركات قطاع الأعمال العام؛ حيث نجد أن جميع الحسابات الاقتصادية والدراسات الإنتاجية والأبحاث التسويقية تدفع في اتجاه تدعيم سياسات الدولة لكن في المقابل تتحرك الثقافة الجمعية مدفوعة بالإرث التاريخي الذي عفا عليه الزمن في اتجاهات معاكسة لتزيد من مشقة عمليات الإصلاح وإعادة الهيكلة التي يحتاجها الاقتصاد المصري بشدة خلال الفترة الماضية.
ومن ثم فإننا كمجتمع متمثلا في الأسرة والمدارس والجامعات ومنظمات المجتمع المدني وغيرها يجب أن نعمل على تنفيذ برنامج إصلاح اجتماعي بالتوازي مع برامج الإصلاح الاقتصادي على أن تتركز أهدافه على إزالة الموروثات العقيمة والأفكار المعوقة وإعادة تشكيل وتطوير ثقافة العمل وبنية مكونات الموارد البشرية والتوافق مع الحداثة الاقتصادية وتطورات الفكر الاقتصادي وصولا لإعادة تشكيل البنية الاجتماعية المصرية بما يسمح لها بلعب دور أكبر في مساندة السياسات الاقتصادية للدولة وصولا لاحتلال مركز متقدم في سلم التطور الاقتصادي والتكنولوجي العالمي.