لم تنشر أسرة الأستاذ محمد حسنين هيكل نص وصيته، التى تركها قبل رحيله منذ نحو خمس سنوات، ولم ينقلوا منها لأحد سوى نذر يسير، يخص بعض المقربين الذين ذكرهم فى وصية كتبها بخط يده، من تسع صفحات، كانت أقرب الى رسالة شكر وامتنان لأسرته، وبعض من أحبهم واقتربوا من قلبه ووجدانه، وعلى رأسهم زوجته السيدة هدايت، التى يخاطبها فى بعض سطور رسالة خاصة قائلا: لا أعرف هل أقول لك صباح الخير يا حبيبتي، أو مساء الخير يا عمري، فأنت حين تطالعين هذه السطور، أكون أنا طالع على بداية ذلك الجسر الواصل بين هذا العالم وما وراءه. ما يعرفه بعض المقربين من الأستاذ، وما صرحت به أسرته فى وقت لاحق على رحيله، أنه كتب تلك الوصية، وربما تلك الرسالة أيضا، إلى رفيقة عمره، منذ نحو ثلاثين عاما قبل الرحيل، لكنها ظلت محفوظة بناء على طلبه، فلم تفتح إلا بعد رحيله، وكأنما أراد وهو الذى ملأ دنيا الصحافة والسياسة، أفكارا ومعانى وقيما، على مدار أكثر من نصف قرن، أن يؤكد كل ما آمن به، من أن الأفكار تبقى بعد أصحابها، وأن التجارب تلهم لآماد طويلة، بقدر ما تنطوى على معنى وقيمة. ولعل تلك الوصية، أو ما تسرب منها، عبر مقربين من العائلة، تفسر إلى حد كبير ما حار فى فهمه كثيرون، عن رجل اقترب من السلطة فى مصر، على نحو لم يقترب إليه أحد، لكنه ظل مترفعا عن شغل أى منصب رسمي، باستثناء مرة وحيدة، ولاعتبارات قال إن ظروفا قاهرة قد فرضتها عليه، فاحتفظ لنفسه بما اعتبره يليق برجل، ظل دوره الرئيسى ينحصر فى قراءة الأحداث، واستشراف تطوراتها، والاشارة الى مواطن الخلل، فى رحلة الأمم نحو مصائرها المحتومة. على امتداد مشواره مع الصحافة والسياسة، قدم الأستاذ هيكل نموذجا، تحول الى أيقونة لأجيال عدة، برغم ما كانت تثيره آراؤه ومواقفه من جدل، لكنه ظل يشق مساره مثل نهر، فى طريقه نحو المصب، غير عابئ بتخرصات المرجفين، ولا ملتفت لما يطلقه حوله كثير من المريدين من هالات التقديس. قبل رحيله بشهور قليلة، أطل الاستاذ على جمهوره لمرة أخيرة، ليقدم عبر حلقتين فى فضائية سى بى سي، قراءة شديدة العمق، لما يمر به الوطن العربى من أحداث وتقلبات، قبل أن يدخل بعدها إلى أزمة صحية صعبة، وقد أدرك حينها وهو يدلف الى عامه الثالث بعد التسعين، أن قطار العمر يتجه نحو محطته الأخيرة، فقرر أن يواجه الموت بجسارة تليق بمشوار عمر، ظل خلاله ملء السمع والبصر. استأذن الأستاذ فى الانصراف، بينما صدى كلمته التى أطلقها قبل سنوات، لا يزال يتردد فى الآفاق، عندما قال ذات يوم، إن المواقف عظيمة. لكن الرجال صغار.