لقد جعل الله تعالى الدنيا دار ابتلاء واختبار وليست دار راحة وطمأنينة واستقرار ، ودار عمل وتكليف وليست دار أمل وتشريف، ولهذا فمهما علا شأننا فيها من علمًا ومالاً وجاهًا وسلطانًا وسرورًا، فإننا فيها مبتلون لا محالة، ولكن أكثرنا يغفل عن ذلك؛ لأنه بمجرد أن تصيب أحدنا مصيبة يمتلئ قلبه حزنًا ويشطاط غضبًا بدون أن يشكر الله على ما أصابه مخالفًا قوله تعالى: (هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)[ النمل : 40]. والسؤال: هل الابتلاء نعمة أم نقمة ؟، وما هي أشكاله وصورة والفرق بينه وبين البلاء ؟، وكيف يتم دفعه وأفضل صيغة دعاء لرفعه؟.. وللإجابة عن هذة التساؤلات إستعنا برأي بعض علماء الأزهر الشريف الذين أجابونا في السطور التالية: أشكاله يقول الشيخ عبد الحميد الأطرش رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف إن الابتلاء نعمة وليس نقمة بل هو كالدواء الذي يشفينا به الله تعالى من الخطايا والذنوب ، وقد ورد ذكره بآيات عدة في القرآن الكريم ، منها على سبيل المثال قوله تعالى : {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك: 2] ، وقوله أيضًا جل شأنه : {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[ البقرة : 155] ، فهو يمكن أن يكون في المال أو الأهل أو الولد أو الصحة أو الجاه أو المنصب أوغير ذلك، ولكن المهم هو الصبر ، لأن الله عز وجل أمر المبتلى بذلك وأعد له ما لم يعده لأحدًا من أجر ، فقال سبحانه في حديثه القدسي : " فإن رضيت بما قسمته لك أرحت قلبك وبدنك ، وكنت عندي محمودًا ، وإن لم ترض بما قسمته لك فوعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحوش في البرية ثم لا يكون لك منها إلا ما قسمته لك ، وكنت عندي مذمومًا"، وقال ابن عباس رضي الله عنه إن أول شيء كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ هو قول : " إني أنا الله لا إله إلا أنا ، محمد رسولي ، من استسلم لقضائي، وصبر على بلائي ، وشكر نعمائي ، كتبته صديقًا وبعثته مع الصديقين ، ومن لم يستسلم لقضائي ولم يصبر على بلائي ، ولم يشكر نعمائي ، فليتخذ إلهًا سواي". ويكمل الشيخ الأطرش: ولهذا نجد إن أشد الناس بلاءًا كما أخبرنا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم هم الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل ، لأن الله تعالى يبتلي المرء على قدر دينه ، وعلى قدر حبه لعبده ، فهو سبحانه إذا أحب عبدًا صب عليه البلاء صبًا بل زاده ، فإذا دعاه العبد وقال رباه . قال له الله عز وجل : "لبيك يا عبدي لا تسألني شيئًا إلا أعطيتك . أما أعجله لك في الدنيا ، وأما أدخره لك في الآخرة" ، ولذلك يجب علينا عندما تحل بنا مصيبة أو الفاجعة ألا نسخط و نقنط من رحمة الله بل نحمده ونشكره ، لأنها نعمة منه سبحانه لنا في الدنيا قبل الآخرة وإن كان أعظمها ما كانت في النفس سواء بالمرض أو الموت أو في الدين ، لأننا في الدنيا نتطهر بها من الذنوب ، وفي الآخره تبيض بها وجوهنا يوم القيامة ، ولا ينصب للمبتلى الصابر منا ميزان ولا ينشر له ديوان ، ويصب عليه الأجر صبًا يوم الحساب لدرجة إن أهل العافية يتمنون لو قطعت أجسادهم بمقاريض لينالوا مثل المبتلى من حسن ثواب الله ، لقوله صلى الله عليه وسلم :« يودّ أهل العافية يوم القيامة حين يُعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قُرضت في الدنيا بالمقاريض » رواه الترمذي. ويضيف الشيخ الأطرش : فهنيئاً لكل من كان مبتلى ، لأن المبتلون سيدخلون الجنة بإذن الله ورحمته بغير حساب بشرط الصبر عند وقوع المصيبة ، وأن يفوضوا أمرهم إلى الله تعالى، ويقولون : "إنا لله وإنا إليه راجعون" ، لأنه في يوم القيامة يأتي منادي، ويقول من كان له على الله من ديناً فليتقدم لأخذه، فتتعجب الخلائق وتقول من هذا الذي له على الله ديناً . فيرد المنادي ويقول: من أدمع الله عينه وأحزن قلبه في الدنيا، فتقوم خلائق كثيرة ، فيقول المنادي: أن الله لن يعطي إلا من كان في صحيفته الصبر أي كان من المبتلين الصابرين حقًا على قضاء الله وقدره في الحياة الدنيا. الصبر ويؤكد الشيخ علي خليل الأمين العام لهيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف إن العبد المؤمن كل أمره خير سواء في السراء أو الضراء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر وكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» رواه مسلم ، ولهذا المؤمن عندما يبتليه ربه؛ لأنه سبحانه يريد أن يرفعه درجات ويمحو عنه السيئات ، ولكن الغير مدرك لحقيقة ذلك نجده يضجر ويحزن ويكتئب وييأس ويتألم ، ولا يعرف للصبر سبيلا ، رغم إن القرآن الكريم عنى بالصبر ورفع منزلة الصابرين ، حيث قال تعالى : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: 10] . ويضيف الشيخ خليل: فالإنسان الصابر على قضاء الله يضاعف له الأجر في الآخرة ، ويكون مؤيدًا بمعونة الله له في الدنيا ، لقوله تعالى :{ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال: 46] ، ولذلك ليس في الإسلام عويل أو صراخ أو صياح أو لطم للخدود أو شق الجيوب أو صبغ الوجوه أو ندب وترديد ، لأن كل ذلك حرام وفيه أعتراض على قضاء الله وقدره، ويفقد من يفعل ذلك أجر الصابرين ، ولهذا يجب علينا أن نصبر في المصائب والشدائد والمحن والابتلاءات ، لأن في الصبر عزاء للقلوب المكلومة وشفاء للنفوس الحزينة. دعاؤه ويشدد الشيخ أحمد تركي الداعية الإسلامي وأحد علماء الأزهر الشريف : على ضرورة التفرقة بين الابتلاء والبلاء والعقوبة، قائلاً: إن الابتلاء هو أمرًا يخص المؤمن وحده لاختبار صدق إيمانه وتربيته على الصبر وتمحيصه، فهو تزكية متواصلة له من الله، لقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}[الشورى :30] . أما البلاء : فهو أمرًا عامًا لناس كافة ، لقوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء:35] ، مثل الزلازل والأمراض والأوبئة كوباء كورونا الأن الذي لا يجب ربطه بمسألة الذنوب ، لأن وباء الطاعون وقع في عهد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأطهار الأبرار.. فهل هؤلاء كانوا أصحاب سيئات ؟!! أما العقوبة: فهي لمن انحرفوا عن الصواب ، فاغتروا بالحياة الدنيا وزينتها وشهواتها، لقوله تعالى : {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}[ مريم:59]. ويبين الشيخ تركي: إنه لرفع الابتلاء أو البلاء يجب علينا أن نتقي الله تعالى ، لأن التقوى جعلها الله تعالى سببًا للفرج بعد الشدة وكشفاً للكرب بعد الضيق ، حيث قال جل شأنه: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[الطلاق:2 3] ؛ والدعاء لقول ابن القيم عن بركة الدعاء: "أنه من أنفع الأدوية ، وعدو البلاء ، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله ، ويرفعه أو يخففه إذا نزل"؛ وبكثرة الاستغفار، لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[ الأنفال:33]؛ والصلاة بخشوع وحضور، لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا وادعُوا حتى ينكشف ما بكم"؛ وبالصدقة. كما بين الشيخ تركي : إن أفضل صيغة دعاء لرفع البلاء أو الابتلاء هو قول: "اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء، اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك وجميع سخطك، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" . أما للتحصين من بلاء الأوبئة فنقول: "تحصنت بذي العزة، واعتصمت برب الملكوت، وتوكلت على الحي الذي لا يموت.. اللهم اصرف عنا الوباء بلطفك يا لطيف.. إنك على كلٍ شيئاً قدير".