تعددت الطرق والمسالك وكل أساليب الخداع والمخاطرة بالحياة لكن تبقى الوجهة في النهاية هي إيطاليا، وكأنها أرض الأحلام التي تقذف إليها الأمواج بالباحثين عن الثراء السريع.. فعلى الرغم من نجاح الدولة في القضاء تماما على ظاهرة الهجرة غير الشرعية بتأمين المنافذ والحدود البحرية والبرية، إلا أن أوهام البعض لا تتوقف عند حد معين، والنتيجة استمرار ظاهرة الموت في عرض البحار على أسطح المراكب المتهالكة والتي كان آخرها حادث السلوم الذي وقع قبل عدة أسابيع. فقد ابتكر سماسرة الموت طرقا وحيلا جديدة لتهريب البشر إلى أوروبا، وهذا ما كشف عنه الحادث الأخير الذي وقع الشهر الماضي ونتج عنه غرق العديد من الشباب المصري قبالة سواحل ليبيا.. فما الأساليب الجديدة في عالم الهجرة غير الشرعية؟.. وما حكايات الناجين من مراكب الموت؟.. وكيف يخطط سماسرة الهجرة لرحلات الموت في عرض البحار؟.. التفاصيل في السطور التالية. كل الطرق تؤدي إلى روما، أو هكذا يأمل الحالمون بالثراء السريع، ففي الماضي كان سماسرة الهجرة غير الشرعية يستغلون بعض الثغرات للخروج من الشواطيء المصرية، لكن مع تشديد الرقابة أصبح السفر إلى ليبيا هو أول الطريق.. المدهش في الحكايات الصادمة التي نرويها لكم أن الناجين في كل مرة لا يتعظون من مشاهد الموت وإنما يحلم بعضهم بتكرار التجربة. البداية بالنسبة لنا من بعض القرى المصرية بصعيد مصر والتي لا يزال تسيطر على أبنائها أوهام الهجرة غير الشرعية، وكانت قرى "منية الحيط" و"الغرق" وعزبة "الأعمى" آخر القرى التي دفعت ثمنا باهظا من أرواح أبنائها قبل نحو 5 أسابيع؛ حيث كان بعض شباب القرية ضمن المهاجرين غير الشرعيين الذين لقوا حتفهم قبالة سواحل البحر المتوسط، وكانوا من ضمن الجثث المتحللة التي تسلمها مستشفى السلوم العام.. حيث يقول رجب أبو عايدة (35 عاما) أحد أبناء قرية الغرق، مع الأسف ظاهرة الهجرة غير الشرعية لم تنتهى من القرية، فالموضوع أصبح إدمانا عند الأسر الفقيرة التي تدفع بأبنائها للسفر عن طريق أحد مندوبي مكاتب السفريات الموجود في القرية وهو مع الأسف ابن من أبناء البلد، ومع ذلك الأهالي يثقون فيه ثقة عمياء، وبعضهم يقوم ببيع قراريط من الأراضي الزراعية ليقوم بتوفير أجرة سمسار السفريات، والحقيقة أن الشباب الذين غرقوا في البحر في الحادثة الأخيرة كانوا يخططون للسفر إلى إيطاليا عن طريق ليبيا، والمهربون حاولوا أن يتسللوا بالشباب عن طريق البحر هروبا من منفذ السلوم والكاميرات والأسلاك الشائكة على الحدود الغربية، وبسبب سوء الأحوال الجوية غرقت المركب، وبعد الحادث مباشرة اختفى سمسار السفريات من القرية تماما في حين استقبلت أسر الضحايا الشباب لدفنهم. أما شعبان السيد (27 عاما) مبيض محارة من أهالي قرية تطون بالفيوم فيقول: الثراء الكبير الذي حققه بعض الشباب الذين سافروا إلى ليبيا هو الذي يتسبب في حالة الهوس التي تسيطر على أهالي القرية، فبعضهم قام بهدم المباني القديمة وبنوا فيلات وبيوت فخمة وأصبحوا أصحاب مشاريع، ولذلك لايزال يفكر الكثير من الشباب في الهجرة بهذه الطريقة، وأنا شخصيا حاولت السفر عن طريق ليبيا العام الماضي، وواجهت الموت في عرض البحر، وبعد 3 أيام تم إلقاء القبض علينا وترحيلنا مرة أخرى، وفي هذا الحادث فقدت اثنين من أعز أصدقائي في القرية ممن ماتوا على سطح المركب نتيجة البرد، وبالرغم من كل ذلك فالحلم لايزال يراودني كما يراود الكثير من الشباب الذين ينتظرون طرقا جديدة للتهريب، خاصة وأن السفر عن طريق ليبيا أصبح مستحيلا، كما أن السفر عن طريق المغرب أيضا يعد مكلفا جدا، والمهربون يحاولون أن يخدعوا الشباب بطرق جديدة عن طريق اليونان وتركيا بتأشيرة سياحة ولكن بتكلفة أكبر قد تصل ل 100 ألف جنيه. ويقول أحمد زكريا (23عاما) من منيا القمح بمحافظة الشرقية، وحاصل على دبلوم فني: السفر لإيطاليا لم يتوقف وإنما يتم عن طريق ليبيا، من خلال مكاتب سفريات موجودة في كل مدينة، وأنا سافرت إلى ليبيا وقعدت هناك فى مكان اسمه التخزين أو (الحوش) وهو مكان يتجمع فيه الشباب قبل السفر على المركب، وطبعا الأحوال الجوية كانت صعبة جدا، فاضطررنا للبقاء في الحوش 15 يوما، وبعدها اتجهنا لركوب المركب على شاطئ البحر، وكانت المفاجأة أن الأمن الليبي كان في انتظارنا فتعرضنا لإطلاق نار، وتوفي الكثير من الشباب، وبالنسبة لنا كشباب مصريين فقد ألقت الشرطة الليبية القبض علينا، ثم قاموا بترحيلنا على السلوم، ولكني لم أستسلم فاستخرجت "جواز سفر" بديل وسافرت مرة أخرى وتعرضت لنفس الموقف. أما المرة الثالثة فقد سافرت إلى ليبيا وبعد 5 أيام ركبنا على مركب صيد وكنا حوالي 250 شخصا وطبعا السماسرة وضعونا على سطح المركب في مواجهة الطقس السيئ والأمطار والرياح والأمواج، أما التوانسة والمغاربة فكانوا يدفعون أكثر وبالتالي كان يتم وضعهم داخل المركب في غرف. أما نحن فكنا نضطر كل ساعة لرفع كميات هائلة من المياه من سطح المركب حتى لا تغرق. وقبل أن نصل إلى (لامبدوزا) وهي الجزير الإيطالية التي تستقبل المهاجرين غير الشرعيين تعرضت المركب لعطل مفاجئ وصاحب المركب قال "يلا انزلوا كملوها عوم" وفعلا ظللنا أكثر من يوم في عرض البحر ونحن نواجه الأمواج حتى حضر لانش إنقاذ وأخذونا على (لامبدوزا) تحت رعاية (الصليب الأحمر)، والحقيقة أننا وجدنا معاملة إنسانية، ثم قاموا بترحيلنا إلى منطقة (كاتانيا سيتى) فى الشمال، وهي منطقة سجون وبعدها هربنا إلى أن ألقت الشرطة الإيطالية القبض علينا مرة أخرى، حيث تم ترحيلنا إلى أحد سجون روما شديدة الحراسة، حتى حضر السفير المصري وتعرف علينا وقرر ترحيلنا بعد موافقة السلطات الإيطالية إلى مصر مرة أخرى، بعد أن رأيت الموت مرات عديدة. ويبدو أن حكايات الموت في عرض البحار قد جعلت الكثيرين يبحثون عن طريق آخر.. هذا ما فعله محمد عرفات (24 عاما) من محافظة الشرقية، حيث يحكي قصته مع الهجرة غير الشرعية، قائلا: رفضت أن أجرب سكة المياه لأنها صعبة والوصول إلى إيطاليا من خلالها يعد أمرا مستحيلا، حتى تعرفت على سمسار سفريات عندنا فى البلد واتفقت معه على أن يساعدني في السفر إلى إيطاليا مقابل 80 ألف جنيه، وذلك عن طريق المغرب، فمن خلال المغرب سنعبر إلى اسبانيا بحرا، وبالفعل عملت الجواز وسافرت من مطار القاهرة إلى المغرب، ثم سافرت إلى مدينة "مليلة" وهي مدينة كانت محل نزاع بين المغرب وإسبانيا، ويلجأ إلى هذه المدينة الكثير من المهاجرين باعتبارها بوابة للدخول إلى أوروبا ومع ذلك فإن الشرطة الإسبانية لا تتوقف عن مطاردة الهاربين بها، فعندما تم إلقاء القبض علينا أخذونا إلى مكتب اللجوء وحققوا معنا فأعطوني إقامة لجوء مؤقتة، ثم أدخلوني أحد الملاجيء التابعة للصليب الأحمر وألحقوني بمدرسة حتى أتعلم اللغة الإسبانية، وبعدها ب 6 أشهر رفضوا طلب اللجوء الذي قدمته فهربت من الملجأ وحاولت أن أجد عملا بديلا ولكني فشلت، وفيما بعد كشفت السلطات المغربية عن هذا الطريق، فبدأت تطارد المهربين، ولذلك بدأ بعض الشباب يبحث عن طريق آخر وهو السفر إلى النيجر ومنه إلى المغرب. الكثير من المهاجرين غير الشرعيين صغار في السن، ومع ذلك لم يجدوا رادعا من الأسرة لكي تحميهم من هذا المصير المجهول، حيث يقول عصام الحاوى (17 سنة) من محافظة البحيرة: أنا سافرت حتى أكون مستقبلى لأننا هنا نكافح مع المستحيل، ولذلك سافرت من مصر إلى ليبيا ودفعت للسمسار 45 ألف جنيه، وانتقلت لمكان اسمه "زوارة" وقعدنا هناك 5 أيام حتى تتحسن أحوال البحر، وفي اليوم الخامس نادوا علينا، وقبل أن نمشى، أخذ المهرب منا جوزات السفر، لأننا لو وصلنا ووجدت السلطات الإيطالية معنا جوازات السفر، فإنهم سيرحلوننا فى أقرب طائرة، لكن بالنسبة لى كان الوضع سهلا لأن القانون الإيطالى يمنع ترحيل (القصر)، وقبل ركوب "الزوديك" قال لنا المهرب "مفيش فلوس هترجع وبعدين علشان تبقوا على علم اللى هيركب يا إما يوصل يا إما يموت مفيش حاجة اسمها رجوع".. وطبعا ركبنا "الزوديك" وربطونا بحبال وكنا 91 شخصا على سطح المركب، لدرجة أن بعض الشباب ماتوا من الجوع والبرد، وأنا جسمى أصبح أزرق من شدة البرودة. وعندما أصبحنا على مقربة من "لامبدوزا" قابلنا لانش انقاذ وقبضوا علينا، وبعدها بأيام رحلونا مرة أخرى لمصر.