د. جابر عصفور علَّمنا أساتذتنا أننا ما دُمنا فى الجامعة فكل شىء قابل للاختلاف. وأنه لا يوجد يقين قَط إلا بعد أن يكون هناك اختلافات، كما علَّمونا أن فى الشك، العافية العقلية، وأن التردد فى قبول الأمور ومُساءلتها، أولى العلامات التى تقود إلى المعرفة الموضوعية. وأن المعرفة الموضوعية لا تتأتى بسهولةٍ إلا بعد أن يختبر العقل الذى يتوصل إليها كل الاحتمالات، واضعًا إياها موضع المُساءلة بما فى ذلك مُساءلة العقل الذى يُسائلُ غيره فى الوقت نفسه. ولذلك آمنّا أن الترقية الجامعية هى ترقيةٌ، المحك فيها ليس اتفاق الآراء، وإنما اختلافها، فمن يترقى من الأساتذة يقدم أطروحات ليس من المتوقع أن يتقبلها الجميع، وإنما المتوقع أن يناقشوها ويسبروا أغوارها. فإذا تأكدوا من منهجية المُساءلة، وسلامة الأقيسة المنطقية وجدوى الاستبارات، حكموا بسلامة ما هو معروض عليهم وقيمته فى آن. ولذلك أصبحنا نُعلِّم طلابنا حق الاختلاف، لكن مع أدب الاختلاف فى الوقت نفسه. فليست قضية العلم هى أن تختلف مع هذا أو ذاك، وإنما أن تُسائل هذه الفكرة أو تلك، مُختبرًا سلامتها، وإمكانية تطبيقها، وذلك فى نوعٍ من الحياد المنهجى الذى لا يجعل من الباحث أو الباحثة مُتعصبًا أو مُغاليًا فى استحسان أو استقباح هذه الفكرة أو تلك على غير هدى من العقل أو دلائل برهانية من الواقع. ولذلك يمكن أن يترقَّى الباحث الجامعى ببحثٍ أو أبحاث قد لا توافق عليها لجنة الترقيات من حيث هى أفراد، فالأولوية فى مثل هذه الأحوال للمنهجية. أعنى الدرجة أو المدَى الذى يختبر فيه وبه الفاحصون جدية المُساءلة وعمقها معًا. وهذا يعنى أننى لا أرتقى بهذا الأستاذ أو ذاك لأننى أوافق على أفكاره، أو أجدها داعمة لأفكارى، فالأهم هو ما أرى فى أفكار الباحث المُتقدم للترقية من جدة وأصالة، واتساق منطقى، وتمسك بالموضوعية فى الوقت نفسه، أما مسألة الاتفاق أو عدمه، فهذه قضية ليست مطروحة فى العمليات المنهجية للقياس. فالعلم لا يتقدم بموافقة اللاحق للسابق، وإنما باختلافه عنه، وقد يكون هذا الاختلاف جزئيًّا أو كليًّا. فقد حدَّثنا مؤرِّخو العلم أن تقدم العلم الإنسانى يقوم على مجموعةٍ من الانقطاعات التى تتغير بها الأطروحة الشاملة فى عصر إلى أطروحة مغايرة، وهذا أمر واضح فى تاريخ العلوم الطبيعية، وفى العلوم الإنسانية، ولذلك فأنا يمكن أن أختلف مع هذا الكاتب أو ذاك، لكن أظل محتفظًا له بحقه فى الاحترام على المحاولة، وعلى الجهد الذى بذله، حتى ولو لم أوافق على النتيجة نهائيًّا. والمؤكد أنه بهذا الاختلاف وحده تتأصل الثقافات الكبرى المتقدمة، وتتأسس الجامعات العظيمة، وتتقدم العلوم والحضارات، بل تتراتب الجامعات العالمية فى الرتبة والمكانة العلمية. ولا جدال فى أن الجامعات التى تتيح لأبنائها وأساتذتها ميزات الاختلاف وتقديره، هى الجامعات التى تأتى دائمًا فى المقدمة عندما نعد درجات التقدم ونحسبها فى تراتب الجامعات على مستوى العالم. هذا الحق فى الاختلاف هو حق ينتقل من المجالات الجامعية إلى المجالات الفكرية والثقافية العامة. فالثقافات تزدهر مع الاختلاف، ولا يمكن أن توجد ثقافة حية متوثبة بالعافية والحيوية دون أن يكون الاختلاف عنصرًا من عناصرها التكوينية، ولذلك يلح المشتغلون بالثقافة بوجهٍ عام على كلمة: التنوع ويضيفون إليها أحيانًا فى حالات الإعجاب كلمة: الخلاق، ف التنوع الخلاق لا يحدث إلا فى الثقافات الحية المتقدمة والمتطورة، وهى خاصية إذا وُجدت فى الثقافة أثبتت الثقافة فعاليتها وقدرتها على الريادة والتأثير. فثقافة التنوع الخلاق كما نقرأ فى الكتابات المعاصرة، هى ثقافة التعدد الذى يُبقِى على خصوصية الأفراد، لكن بما يجاور بين الاتفاق والاختلاف، ويسمح للاختلاف أن يكون عامل قوةٍ يدعم أفكار التعدد والمغايرة فى آن. ولذلك تستخدم اليونسكو فى السنوات الأخيرة مصطلح: التنوع الخلاق لتشير به إلى نوع الثقافة التى تريد إشاعتها فى العالم، ردًّا أو رفضًا للأفكار الاستعمارية التقليدية عن الثقافة. أعنى الأفكار التى كانت تؤمن بنوعٍ من المركزية الأوربية أولًا، ثم المركزية الأوربية الأمريكية ثانيًّا. فهى ثقافة تعتمد دائمًا على وحدة المركز المُتقدم الذى يُهيمن على غيره من المراكز، ويفرض عليها صفاته الأساسية، ومن ثم يكون القياس الإيجابى لأية ثقافة فى الكوكب الأرضى هو تشابهها مع ثقافة المركز فى الملامح العامة والصفات الكلية. وعلى العكس من ذلك ثقافة التنوع الخلاق التى تصل ما بين ثقافات العالم على أساسٍ من التشابه والاختلاف على السواء. ولذلك أصبحنا إزاء نوعين من الثقافة: ثقافة الوحدة المركزية القديمة التى تبسط هيمنة ثقافة بعينها على غيرها من ثقافات الكوكب. وهى ثقافة ظلت تتجاهل طويلًا ثقافات العالم الثالث، ولا تنظر إليها – قيميًّا - إلا من منظور ثقافة العالم الأول، وهو أمر بالغ الخطورة، وترتب عليه مثلًا، فى أزمنة المد الاستعمارى، أن الأحكام بالقيمة الإيجابية أو الجمالية ما كانت توضع إلا على ما هو مُستحسن فى ثقافات المركز لا الأطراف. الآن بعد أن تغيرت الخارطة العالمية لم يعد الأمر مُمكنًا، خصوصًا بعد أن تحررت دول الكوكب الأرضى من أشكال الهيمنة أو الاستعمار القديم والجديد، وأصبحت تتطلع إلى وضعٍ جديدٍ تنجز فيه كل ثقافة ما تستطيع أن تضيفه إلى الإنسانية، وما يُبقى على خصائصها الذاتية فى الوقت نفسه، ولذلك فمن المشهور- الآن- ما كان يقوله غاندى فى الهند من أنه مستعد أن يفتح نوافذ بيته على كل اتجاهٍ للريح، شريطة أن لا تطيح به الرياح العاتية، فتقوض بيته. وهذا هو ما نقصد إليه عندما نحلم بوجود ثقافة تنوع خلاق فى هذا البلد العربى أو ذاك. أعنى وجود ثقافة تتوافر فيها دائمًا مجموعة من العناصر التكوينية الثابتة عبر العصور، بالإضافة إلى مجموعة أو مجموعات موازية من العناصر التى تتراكم مُتغيرة عبر الأزمنة والتواريخ والأمكنة فى آن. (وللحديث بقية).