مصطفى سويف واحد من الأساتذة المحترمين الذين حرصت على الاقتداء بهم والاقتراب منهم والتتلمذ عليهم والاحترام الدائم لهم. عرفته منذ سنوات بعيدة، فى منزل أستاذى عبد العزيز الأهوانى، فانبهرت به وبطريقته الهادئة فى النقاش والحوار، وكانت معه زوجه أستاذتى الدكتورة فاطمة موسى، فاقتربت منهما منذ ذلك اليوم البعيد، وأحببت كليهما، وحرصت على التتلمذ عليهما، رغم اختلاف المجال البحثى لكل منهما. وكانت الدكتورة فاطمة موسى قد نقلت اهتمامها إلى الرواية العربية، وروايات نجيب محفوظ على وجه التحديد. .................................................. وكانت أول من شجعنى وأعاننى فى تأسيس المشروع القومى للترجمة الذى أصبح نقطة الانطلاق فى تأسيس المركز القومى للترجمة. أما مصطفى سويف فكان قد أضاف إلى مجاله الأثير فى الدراسة النفسية للإبداع، الحرص على فتح أفق جديد فى علم النفس التجريبى، وهو دراسة ظاهرة المخدرات ودوافعها وآفاتها الاجتماعية على السواء، مبحرا فى طريق آخر غير الذى عودنا عليه فى دراسة الإبداع، ولكن دون أن يقطع ما يصل بين المجالين المعرفيين، وهو الاهتمام بالأبعاد الاجتماعية فى الظواهر المدروسة، وعدم إغفال الآثار الاجتماعية الموصلة لها والمترتبة عليها أولا، والالتزام بأقصى درجات الدقة فى استخدام المنهج العلمى، وما يفرضه هذا المنهج من مراعاة الدقة والأمانة والموضوعية. وليس من المبالغة القول بأن دراسة الإبداع نفسيا من ناحية، ودراسة التكامل الاجتماعى ومعوقاته من ناحية ثانية هما المجالان الجاذبان لأغلب دراسات وكتابات أستاذنا الجليل فى المجالات البحثية التى تقع فى مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية. وأعتقد أن النزعة العلمية الموضوعية والصارمة هى ما باعدت بينه ومناهج علم النفس التأملية والاستبطانية. ولذلك انقطع منهجه عن مناهج التحليل النفسى عند «فرويد» وأتباعه وصولا إلى «لاكان»، كما قارب بينه والدراسات الإكلينيكية التجريبية والسريرية معا. وكانت النتيجة اقترابه من مناهج العلوم الطبية الحديثة التى تهتم بالظواهر النفسية، وتقوم بدراستها على أسس تجريبية راسخة. وظنى أن مصطفى سويف قادنى بذلك– فى تخصصى الدقيق، وهو النقد الأدبى- إلى الاهتمام بالدراسات البينية التى أفضت بى إلى الوعى الدائم بوحدة المعارف الإنسانية، ومن ثم الوعى الكامل بتبادل حقول المعرفة الإنسانية كلها. هكذا أصبحت تلميذا لمصطفى سويف على مستوى المنهجية العلمية من ناحية، وعلى مستوى الاهتمام بالأبعاد الاجتماعية لدراسة الظواهر الإنسانية من ناحية موازية. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يحصل على درجة الدكتوراة فى علم النفس الاجتماعى. وقد صدرت فى كتاب بعنوان «الأسس النفسية للتكامل الاجتماعى»، وذلك بعد صدور أطروحته للماجستير فى كتاب بعنوان «الأسس النفسية للإبداع الفنى فى الشعر خاصة». وكان الكتابان بمثابة الأساس المنهجى الذى بنى عليه تلامذته الكثير من الأطروحات الجامعية المتصلة بالأسس النفسية للإبداع الفنى فى مجالاته المتعددة. وقد تحولت هذه الأطروحات إلى كتب ودراسات متتابعة، تشكل من مجموعها تيار علمى متميز على المستويين الكمى والكيفى. ويمكن أن نقول الأمر نفسه عن الأسس النفسية للتكامل الاجتماعى. وهى التى سرعام ما ترتب عليها دراسة المخدرات بوصفها مظهرا من مظاهر الإدمان وخللا فى بنية السلوك الاجتماعى. ولم يكتف مصطفى سويف بتدريب فريق كامل من الباحثين الذين تابعوا العمل تحت إشرافه، وحققوا انجازات باهرة ونتائج ملموسة استعانت بها المنظمات الدولية التى تعرف قيمة وقامة مصطفى سويف الدولية خارج مصر. ولم يبخل هذا العالم الجليل (الذى يحق لوطنه أن يفخر به) بعلمه على جمهور المثقفين، فقد عرض بعض نتائج الدراسات التى قام بها وأشرف عليها فى كتاب تحذيرى بعنوان «المخدرات والمجتمع» طبع فى سلسلة عالم المعرفة الكويتية. وظللت أقترب من مصطفى سويف على المستوى الفكرى والإنسانى، وازداد هذا الارتباط حميمية خلال لقاء الثلاثاء الذى كان يعقده لنا أستاذنا الدكتور عبد العزيز الأهوانى، واستمر على هذا النحو إلى أن توفى الدكتور عبد العزيز الأهوانى رحمه الله سنة 1980، وعندئذ انتقل لقاء الثلاثاء من منزل المرحوم عبد العزيز الأهوانى إلى منزل الدكتور مصطفى سويف الذى كان يقع فى حى المهندسين. وظللنا نلتقى عنده إلى أن توقف هذا اللقاء بسبب عوامل الزمن ورحيل الكثير من رواد اللقاء، ومنهم الدكتورة فاطمة موسى، والدكتور عبد الغفار مكاوى، والدكتور عبد المحسن بدر، والدكتور فيصل يونس، عليهم جميعا رحمة الله. وكنا فى لقاء مصطفى سويف نناقش قضايا العلم التى كانت قد تغيرت النظرة إليها، كما تغيرت بعض أفكاره، وتحولت اهتماماته إلى مجريين أساسيين جديدين، أولهما: الاهتمام بالدراسات المستقبلية. وثانيهما: الإلحاح على الدور الاجتماعى الذى ينبغى أن يقوم به العلماء الوطنيون فى الأقطار النامية أو المتخلفة، كالأقطار التى لا نزال نعيش فيها. ولم أنتبه فى ذلك الوقت إلى أن حرصه على وصف العلماء بالوطنيين إنما كان مرادفا آخر لكلمة «الالتزام» التى كنا نستخدمها فى المجال الأدبى والنقدى، فقد كان – رحمه الله- مؤمنا أن العلماء فى العالم الثالث لابد لهم من الالتزام بقضايا وطنهم، والعمل على الإسهام فى الانتقال به من واقع الضرورة إلى آفاق الحرية. ومن المؤكد أن تكوينه أكثر من فريق فى دراسة ظاهرة المخدرات كان تعبيرا عن هذا الالتزام وممارسة عملية له. وعندما انقطعت عن زيارة ملتقى مصطفى سويف بسبب إعارتى إلى الكويت من سنة 1983 إلى سنة 1988، حرصت كل الحرص على أن يأتى إلى جامعة الكويت ويلقى أكثر من محاضرة للمثقفين وطلاب البحث العلمى فيها. وبالفعل ألقى محاضرتين؛ الأولى عن الدراسات البينية، والثانية كانت عن دور العلماء الوطنيين فى الأقطار النامية. وعندما عدت إلى القاهرة سنة 1988، وتوفى أستاذى عبد المحسن بدر سنة 1990، وكان من أبرز نقاد الواقعية النقدية، ورائد دراسات الرواية الحديثة، ألح أستاذنا الدكتور مصطفى سويف على أن نبعث تقليد محاضرة عبد العزيز الأهوانى السنوية، وبدأ هو بإلقاء محاضرة كان لها أكبر الأثر فى نفوسنا ونفوس طلابنا الذين كنا نحدثهم عن الأساتذة الكبار الذين صنعوا التراث الفكرى العظيم لكلية الآداب بجامعة القاهرة. وأشهد أننى ظللت أحاول ما استطعت أن أنتسب إلى تقاليد هذا التراث العظيم، وأنحاز إليه انحيازا واضحا، وذلك بفضل هذه المحاضرة التى استمرت لسنوات، والتى كانت تذكرة سنوية بهذا التراث العظيم الذى ننتسب إليه، والذى يبدأ من طه حسين ويمتد إلى مصطفى سويف. وزادنى قربا إلى مصطفى سويف أنه كتب عن الأسس النفسية للإبداع الفنى أطروحته للماجستير التى سرعان ما نشرتها دار المعارف فى طبعتها الأولى سنة 1951، ونفدت الطبعة فصدر الكتاب فى طبعته الثانية سنة 1959، ثم جاءت الطبعة الثالثة سنة 1961، وتوالت بقية الطبعات التى تأكد بها حضور هذا الكتاب العلامة فى ثقافة أبناء جيلى. أولا: بوصفه المدخل العلمى إلى الدراسات النفسية التجريبية فى ميدان الإبداع بعامة، والشعرى بخاصة، ولا أزال أذكر ما كتبه فى هذا الكتاب عن تقنيات الشعر وعن جماليات الاستعارة، فضلا عن الإيقاع، فقد كان فتحا عظيما وجسورا على مستوى النقد المحايث (الداخلى) للشعر. وثانيا: من حيث هو نموذج فريد، رائد، مؤثر فى تجاوب الحقول المعرفية وتفاعلها فيما أصبح يعرف بالدراسات البينية. وثالثا: بسبب تميزه المنهجى الذى كشف عن درجة عالية من امتلاك الأدوات المعرفية والعمليات الإجرائية، وذلك من منظور اجتماعى لا تخطئه العين المدققة. ولم يكن هذا المنظور غريبا على مصطفى سويف الذى كان معروفا باقترابه من بعض رموز الطليعة اليسارية الشابة فى عصره، وإيمانه العميق بالدور الاجتماعى للفن والمعرفة. ولذلك اختار أطروحته للدكتوراه فى مجال علم النفس الاجتماعى، كما قلت من قبل. ولم أدرك فى تلك السنوات البعيدة من مطالع الستينيات أن الأفق الفكرى الذى اختار مصطفى سويف الانطلاق فيه هو الذى قاده إلى الكتابة عن الحرية والحياة الاجتماعية، والحرية والتطور الاجتماعى فى مجلة الفصول سنة 1950 وتأويل جديد لمسرحية «هاملت» فى مجلة علم النفس سنة 1951, وإلى الكتابة عن أهمية النظرية فى علم النفس التجريبى وفكر الطابع القومى، وعن أن الاغتيال السياسى يؤخر التطور سنة 1951، وذلك جنبا إلى جنب البحث فى المشكلات النظرية والتطبيقية للمناهج والمفاهيم الأساسية فى المجالات المعرفية المتضافرة تضافر العلوم النفسية والاجتماعية المختلفة، خصوصا فى المدى البينى الذى ظل محورا أساسيا من محاور اهتمام مصطفى سويف. وقد أتاحت لى تلمذتى الحميمة على أستاذى الجليل عبد العزيز الأهوانى- أكثر أساتذتى تأثيرا فى تكوينى المنهجى- أن أعرف مصطفى سويف عن قرب، فقد كانت العلاقة بين الأستاذين وثيقة على مستويات عديدة، كما كانت اللقاءات الأسبوعية التى ظلت تجمع بينهما وعدد قليل متميز من الأساتذة والأستاذات مصدر ثراء ثقافى وتنشيط عقلى ومران منهجى، ففى هذه اللقاءات اتسعت مداركى وتعددت اهتماماتى واقتربت اقترابا حميما من مناطق الوصل المشتركة التى هى مجالات التفاعل بين العلوم المختلفة. وكانت نزعة أستاذى عبد العزيز الأهوانى السقراطية (نسبة إلى طريقة الفيلسوف اليونانى فى الحوار الخلاق) تقابلها نزعة مصطفى سويف التجريبية، وذلك على أرضية رحبة من احترام الاختلاف، وتشجيع التجريب، والإيمان بالتطور فى العلوم، وتقديس حرية البحث العلمى، والتأمل الفكرى، والإبداع الفنى والأدبى. وكانت المحاورات التى تدور فى اللقاءات الأسبوعية، فى منزل الأهوانى، دافعا إلى متابعة نتاج مصطفى سويف الذى بدا لى، ولا يزال، متميزا بغزارته وعمقه وجدته وأصالته. ولا أنسى صفة التغير فى هذا الإنتاج الذى لا يزال يتكشف عن قدرات عقلية مطواعة، سمحة، خلاقة، لا تكف عن التعلم والتعليم، ولا تتردد فى تعديل ما انتهت إليه فى ضوء ما تقتنع به من متغيرات إيجابية واعدة فى مدى العلم والحياة. ومن المنطقى أن يقترن الفكر العلمى- فى تجاوب التنظير والممارسة عند مصطفى سويف- بالنظرة المستقبلية التى لا تقيس الحاضر على الماضى، كما لو كان الماضى هو الإطار المرجعى الأوحد للقيمة، وإنما تقيس عناصر الحاضر- فى حركتها أو سكونها- على إمكانات المستقبل واحتمالاته الخلاقة، خصوصا من حيث هو صعود إلى الأمام، وإضافات تبدأ من حيث ينتهى السابق كى يتقدم اللاحق، وذلك فى مدى التراكم المعرفى الذى لا نهاية له أو حدّّّّ. وما دام الفكر العلمى يتأسس على مبدأ التطور، ويتقدم بالمتغيرات الكمية التى تتحول إلى متغيرات كيفية، فالنظرة المستقبلية هى مدى الرؤية التى لا تكف عن التطلع إلى ما يظل فى حاجة إلى الكشف، والتى لا نهاية لبحثها عن الأفضل والأجمل والأكمل. ولقد عاش مصطفى سويف سنواته الأخيرة بمنطق الأستاذ الحريص على نقل معارفه إلى الآخرين، فكتب وحاضر عن علم النفس من حيث مستقبله بوصفه كيانا اجتماعيا، وأصدر عشرات من الكتب واسعة الانتشار لكى تصل رسالته المستنيرة إلى المجتمع العربى كله. كما أصدر يوميات أعوامه الأخيرة عن طريق المجلس الأعلى للثقافة بعنوان: «عوالم متداخلة». وهى يوميات فى الشأن العام والشأن الخاص (سبتمبر 2014)، وهى سفر جليل يستحق دراسة متفردة على المستويات الأدبية والاجتماعية والسياسية، فضلا عن التربوية، وهو المستوى الذى يجعل من هذه اليوميات نبراسا هاديا لمن يريد أن يمضى فى طريق هؤلاء العظماء الذين مضى فى طريقهم مصطفى سويف. وظل الانضباط الصارم سمة أساسية ملازمة لشخصية مصطفى سويف العلمية، وعلامة على قدرته المذهلة على ضبط الإيقاع الذى لا يختل فى مدى متابعة المعرفة المتدافعة التى لا تعطى نفسها إلا بالعناء المتصل، والحماسة التى لا تعرف الكلل، ومواصلة التعلم الذى يغدو تعليما، وذلك فى العملية التى وصفها إبراهيم بن سيار النظام (من معتزلة القرن الثالث للهجرة)، بقوله: العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك. وظل مصطفى سويف الذى توفاه الله فى عامه الثانى والتسعين يعطى كل نفسه للعلم، غير باخل أو متردد أو متشكك أو طامع فى شىء غير العلم ولوازمه، مخلصا فى عمله، صادقا فى دوافعه، غير قانع بما وصل إليه، ساعيا إلى ما هو أبعد منه، صارما- فى ذلك كله- مع نفسه وتلامذته، فأعطاه العلم ما جعله واحدا من الرموز المضيئة التى تشرف بها جامعة القاهرة، وتزهو على غيرها، والتى يفخر بها الوطن، ويضعها موضع الصدارة، فى حساب الإنجازات المعرفية والقيمة العلمية والقدوة الخلقية والريادة السلوكية. ولذلك يحتفل به تلامذته ومحبوه من الأجيال المختلفة فى كلية الآداب بجامعة القاهرة التى لا تزال مقترنة فى أذهانهم- رغم ما أصبحت عليه- بزمن الرواد العظام والأساتذة الذين ندر أن يتكرروا. أما عن علاقته الشخصية بى ودرجة الحميمية التى كانت تصل بيننا، ففيها الكثير من الدين الشخصى للأستاذ، والعون والدعم النفسى للرائد، كما فيها من الدروس والعبر للمحب الذى يمزج قسوة الأستاذ الصارم بحنو الأب المتسامح. رحمه الله، فقد كان، ولا يزال، حاضرا فى قلوب تلامذته المباشرين وغير المباشرين، نورا يهتدون به حين تضطرب أمامهم مسالك الحياة، فيستطيعون بهذا النور أن يميزوا الحق من الباطل، وأن يختاروا العلم الحقيقى بدل التزييف باسم العلم، ولذلك فأثره العميق المستمر سيظل فى نفوس تلامذته وفى نفوس تلامذتهم على السواء. أعنى الأجيال الجديدة التى سوف تنقل رسالته إلى كل جيل يأتى، مذكرة مصر الحزينة بما أسسته طليعة من صفوة أبنائها فى كلية الآداب، فكانت المنار المشع على الدنيا كلها؛ ابتداء من طه حسين وليس انتهاء بمصطفى سويف، رحمه الله ورحمنا معه.