أشعر دائما بأني محظوظ علي المستوي الأكاديمي، فقد أتاح لي الله أن أتتلمذ علي جيل التلامذة المباشرين لطه حسين العظيم. أعني جيل سهير القلماوي وشوقي ضيف وعبد العزيز الأهواني وعبد الحميد يونس وشكري عياد ومحمد مندور وعبد القادر القط وغيرهم. ولقد عرفت طه حسين من خلال كتبه قبل أن أدخل الجامعة. وعرفت من هذه الكتب أهم مبادئ طه حسين وقيمه الجامعية قبل أن أدخل القسم الذي اقترن باسم طه حسين وأحمد أمين ثم أمين الخولي وخليل نامي ومصطفي السقا وغيرهم من العلماء الذين صنعوا مجد قسم اللغة العربية بكلية الآداب- جامعة القاهرة. وهو القسم الذي تولدت منه أضواء الاستنارة والعقلانية التي أسست لتقاليد جامعية رصينة، لا يزال أبناء جيلي يعملون جاهدين للحفاظ عليها وتزويدها بما يزيد من جذوتها في زمن صعب وضنين. زمن يبدو أنه لا يزال معاديا لقيم العلم والاستنارة والحرية علي السواء. ولا أزال أذكر خيبة أملي عندما التحقت بقسم اللغة العربية، وعرفت أن طه حسين قد وهن منه العظم وضعفت صحته بما يمنعه من التدريس. ولكني وجدت في تلامذته المباشرين من أمثال سهير القلماوي وشوقي ضيف- علي الرغم من التباين المنهجي بينهما- ما يصلني مباشرة بقيم ومبادئ طه حسين، وبعدهما جاء شكري عياد وحسين نصار. وأولهما قادني إلي الدرس البلاغي والنقدي، أما ثانيهما ففتح لي الأبواب التي لم أطرقها من اللغويات والدرس المعجمي. وسرعان ما عرفت أن أولهما كان من أنبه تلامذة الشيخ أمين الخولي في علوم البلاغة والتفسير الذي سرعان ما أصبحت علوما للتأويل أو الهرمنيوطيقا التي تجمع ما بين مشكلات تأويل النصوص المقدسة والأدبية علي السواء. وثانيهما حسين نصار الذي كان صاحب أولي أطروحات الدكتوراه في دراسة المعجم العربي وتطوره. ولا تزال هذه الدراسة نموذجا رفيعا في الدراسات المنهجية إلي اليوم. ورغم إكمال حسين نصار للمنهج الذي بدأه في أطروحة الدكتوراه التي أضاف إليها بحوثا عديدة، ومزيدا من الدراسات المتواصلة، وما اقترن بذلك كله من تحقيقات تشهد بمنزلته السامقة في التحقيق، وحسبه فخرا استكمال التحقيق الأول المتكامل والمدقق لديوان ابن الرومي بأجزائه الستة، وما بذله فيه من جهد مضنٍ مع تلامذته، ناهيك عن عشرات الدواوين القديمة التي حققها أو جمعها، أقول: لم يشفع ذلك لهذا العالم الجليل أن تسعي إليه عضوية مجمع اللغة العربية، فالمجمع منذ أن سيطر عليه الإخوان المسلمون من أبناء كلية دار العلوم، وهو يغلق أبوابه في وجه غير أبناء دار العلوم مهما كان علمه أو فضله، ومهما كانت منزلته ومكانته وأبحاثه، فالتعصب زالدرعميس والتحيز الإخواني أصبحا علامة علي المجمع منذ أن أوصل عهد مرسي رئيسه الحالي إلي ما هو عليه لقدم علاقته بالإخوان، ولله الأمر من قبل ومن بعد. ولم أكن أريد أن أتحدث في ذلك، ولا أعرض لشيء سلبي في هذا المقال الذي أردته احتفاء بواحد من أحب أساتذتي إلي قلبي، وأقربهم إلي نفسي، فهو واحد من الجيل الجامعي الذي علمنا أن الحرية بوجه عام، والحرية الجامعية بوجه خاص هي قدس أقداس المستقبل الواعد للأمة والحياة الجامعية علي السواء، فهو الذي رأي قبلنا المحنة التي واجهها أستاذه طه حسين بشجاعة، عندما أصدر كتابه زفي الشعر الجاهليس في مارس 1926، مؤكد أنه كان في السنوات الأولي من عمره عندما بطشت القوي الرجعية بطه حسين، ولم يقف بجواره سوي مجلس جامعة القاهرة الذي أصدر بيانا بتأكيد حرية البحث العلمي، والوقوف إلي جانب طه حسين في حقه المقدس في الاجتهاد، وحقه المقدس في الاختلاف عن غيره ومع غيره، فالعلم لا يتقدم إلا إذا بدأ اللاحق من حيث انتهي السابق وأضاف إليه ما يحقق وجوده الخلاق علي سلم التطور للتقدم لا علي سلم التخلف والاتباع. لذلك عندما كبر حسين نصار وأصبح أستاذا لنا علمنا مع أقرانه درس طه حسين: أن نكون أحرارا حين نكتب أبحاثا، أن نبدأ من حيث انتهي السابقون لكي نضيف كيفيا وليس كميا، ألا نتوقف عن مساءلة أنفسنا، لكي نكون أكثر مرونة، وتشجيعا للجيل الجديد الآتي بعدنا، ما ظل منطويا علي إضافات خلاقة، فالعلم في أي مجال من مجالاته هو باب مفتوح علي تطورات لا نهائية من الكشف عن كل ما يظل في حاجة إلي الكشف، ولقد علمنا طه حسين وتلامذته، ومنهم العزيز حسين نصار، أن البحث يحتاج إلي الجسارة وشجاعة المواجهة التي تبدأ من مواجهة الباحث لأفكاره هو، وتصفية وعيه من بقايا ما ظل عالقا به من تقاليد بالية، إلي شجاعة مواجهة التحديات في العلم والحياة دون خوف من أحد إلا الله. وتشمل الشجاعة مواجهة التقاليد البالية في الجامعة، والعادات الجامدة في المجتمع، وكل سلطة مستبدة باسم الدين أو السياسة، فالعلم كالتقدم العلمي هو الحرية بأوسع معانيها، ومستقبل الجامعة الواعدة، في حريتها واستقلالها الواعد هو مستقبل الوطن الحر الذي يبني دولته المدنية الديموقراطية الحديثة، القائمة علي الحرية والعدالة الاجتماعية. لقد شعرت بنوع من الأسي عندما مر يوم الأحد الماضي الموافق الخامس والعشرين من أكتوبر، ولم أستطع أن أشارك مركز تحقيق التراث، ولا كلية الآداب، أو حتي القسم الذي تربيت فيه علي يدي حسين نصار وأقرانه الاحتفال بإكماله التسعين من عمره المديد، بإذن الله، مد الله في عمره، وجعله قادرا علي إكمال تعليمنا والإضافة إلي أساتذتنا الذين بدأنا من حيث توقفوا، في الرحلة التي بدأتها مع حسين نصار أستاذا منذ مطالع الستينيات، ولا تزال مستمرة إلي اليوم، والغد بإذن الله. ولهواة التأريخ أقول: ولد أستاذي حسين نصار في حارة كوم بهيج في مدينة أسيوط في الخامس والعشرين من أكتوبر 1925. وحصل علي الليسانس مع مرتبة الشرف من قسم اللغة العربية واللغات الشرقية، جامعة القاهرة 1947، وعلي الماجستير بأطروحة عن زنشأة الكتابة الفنية في الأدب العربيس 1949، وعلي الدكتوراه عن زالمعجم العربي: نشأته وتطورهس 1953. وترقي في السلم الجامعي إلي أن أصبح زأستاذ الأدب المصري في العهد الإسلاميس سنة 1969. وقد حصل أستاذي علي وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي سنة 1986، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة 1986، وجائزة الملك فيصل العالمية في الأدب واللغة سنة 2004، وجائزة النيل سنة 2007. أما عن كتب أستاذي فقد وصلت إلي ما يماثل سنوات عمره، وتشمل عشرات الكتب المؤلفة، وعشرات الدواوين المحققة، وكتبا مترجمة، وعددا لا حصر له من المقالات التي حاول حصرها الكتاب التذكاري الذي أصدره مركز تحقيق التراث منذ أيام. وهو من إعداد د. حسام أحمد عبد الظاهر، وإشراف الصديق الدكتور عبد الستار الحلوجي، ولهما الشكر. أما أستاذي فله الدعاء بالصحة، وأن يظل بيننا قيمة مضيئة من زمن جميل نرجو أن تظل مبادئه الجامعية حية ومتجددة. وعيد ميلاد سعيد يا أستاذي. لمزيد من مقالات جابر عصفور