د. عبدالعليم محمد امتلكت مصر عبر تاريخها الممتد، القدرة على صياغة معالم نموذجها الحضارى الخاص بها، والذى تميز بامتصاص موجات الغزو الخارجى ومقاومته تارة برد العدوان، وأخرى بالمقاومة الثقافية والاحتفاظ بالهوية المصرية فى مواجهة الثقافات والحضارات، التى انتمى إليها الغزاة، واقتباس أفضل ما فى هذه الثقافات ودمجه فى نسيجها الثقافى الوطني, وقد تجلت قدرة مصر هذه على نحو خاص، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، والعقود الأولى من القرن الحادى والعشرين، وذلك فى كل المجالات؛ الحداثة والاقتباس عن الحضارة الغربية، والانتقال من نظام سياسى إلى آخر، وكذلك الأمر فيما يتعلق بصنع السلام والاستقرار وبناء الدولة الحديثة، مع بقاء الدين كمرجعية ثقافية وقيمية فى الوعى والأداء وأخيرا وليس آخرا كشف طبيعة الإسلام السياسى ومراميه البعيدة والقريبة، وفى هذه المجالات كافة امتد تأثير النموذج المصرى لما وراء حدود مصر فى الدوائر العربية والإسلامية والإفريقية. فى مجال الحداثة والاقتباس عن الحضارة الغربية فى النصف الأول من القرن التاسع عشر، يذكر أن اليابان فى أقصى الشرق كانت قد أوفدت إلى مصر بعثة كانت مهمتها استطلاع كيف تتعامل مصر مع القوى الاستعمارية الغربية، وفى الوقت نفسه تأخذ بأسباب النهضة والحداثة فى المجالات المختلفة فى العلوم والفنون والآداب والإدارة بهدف الاسترشاد بالخبرة المصرية. أما مراحل الانتقال، فيذكر أن الاتحاد السوفيتى السابق وقبل انهياره حاول الاستعانة بتجربة مصر فى الانتقال من نظام الاشتراكية العربية أو اشتراكية الدولة فى العهد الناصري، إلى سياسات الانفتاح الاقتصادى والمزاوجة بين دور القطاع العام والقطاع الخاص فى التنمية والتحديث، واقتباس التكنولوجيا، لأن هذا الانتقال فى مصر قد حدث تدريجياً دون هزات عنيفة تهدد الاستقرار، أو هزات يمكن احتواؤها والسيطرة عليها عبر سياسات وآليات مختلفة لتجنب مضاعفات هذا الانتقال. أما فى مجال السلام مع إسرائيل ومنذ توقيع اتفاقيات الإطار فى عام 1978 والمعاهدة المصرية الإسرائيلية فى عام 1979 تمكنت مصر منذ البدايات الأولى من وضع أسس نموذج مصرى لمقاومة التطبيع ترسخ عبر الزمن، وغذته دائما الروح العدوانية الإسرائيلية وتنكرها الدائم لحقوق الشعب الفلسطينى فى كل المراحل من ناحية، وفك الارتباط تدريجياً عبر العقود المنصرمة بين مصالح الدول العربية وبين القضية الفلسطينية، وبناء على ذلك فإن مناهضة التطبيع تستهدف تعويض القضية الفلسطينية بالدعم الشعبى كبديل لتآكل الدعم العربى الرسمى والإبقاء على السردية الفلسطينية قائمة فى الوعى والذاكرة العربية باعتبارهما حائط الصد ضد التخلى عن القضية. حجر الزاوية فى النموذج المصرى لمقاومة التطبيع يتمثل بلا شك فى فض الالتباس القائم فى مفهوم التطبيع، وإزالة وتبديد الغموض الذى يحيط به، حيث إنه بالعودة لنصوص هذه الاتفاقيات لا نجد هذا المفهوم بل نجد مفهوم Normalization أى العلاقات العادية بين الدول الموقعة على هذه المعاهدة والتى لا تلزم الشعب والمواطنين عموماً تبادل العلاقات الشخصية مع الإسرائيليين وكذلك مفهوم التعاون الرسمى بين مصر وإسرائيل. وهكذا ميز المصريون ومنذ اللحظة الأولى لظهور هذا المفهوم، والتحريف الذى روجته الدعاية المغرضة الإسرائيلية بين التزامات الدولة التى وقعت على المعاهدات، وبين حرية المواطنين فى رفض التطبيع، وربط المصريون خلال منظماتهم النقابية والعمالية والمهنية والشعبية والقوى السياسية المختلفة بين التطبيع وبين التقدم فى حصول الشعب الفلسطينى على حقوقه المشروعة فى الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس وكأن الأمر أصبح عقدا غير مكتوب بين الدولة والمواطنين. أدرك المصريون ومنذ اللحظات الأولى أن هذه الورقة أى العلاقات على المستوى غير الرسمى والشعبى ليست مجانية، وأنها إحدى علامات رفض التوسع الصهيونى والإسرائيلى ونصرة الشعب الفلسطيني، ولا يمكن تقديمها مجانا إلا بمقابل الاعتراف الإسرائيلى بالحق الفلسطينى وتحول إسرائيل إلى مجرد دولة عادية بحدود معترف بها دوليا كما نص على ذلك قرار التقسيم لعام 1947، دولة يمكنها أن تعيش فى سلام مع جيرانها دون استعلاء أو عنصرية أو تهديد وابتزاز الشعوب العربية بالقوة والغطرسة، والمصريون بذلك هم أول الشعوب العربية التى تمسكت بالتطبيع المشروط. ومنذ ذلك التاريخ يلاحظ أن علاقة التشدد الشعبى فى مواجهة التطبيع والانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الشعب الفلسطيني، أصبحت علاقة طردية، أى كلما أمعنت إسرائيل فى انتهاك هذه الحقوق، أمعن الشعب المصرى فى رفض ومقاومة التطبيع بمختلف الآليات والأساليب السلمية والقانونية. على النقيض من الإدراك الإسرائيلى والصهيونى لمسألة التطبيع، والذى ترتكز من وجهة النظر الإسرائيلية على النصر الذى حققته إسرائيل فى عام 1967 وتفوقها العسكرى والعلمي، والذى هو كفيل بحمل الدول العربية على قبول التطبيع المجانى معها، يدرك الشعب المصرى والشعوب العربية أن انتصار إسرائيل ليس نهائياً، ولا يمكنها من إخضاع المحيط العربي، بل رافق هذا الانتصار مضاعفات شتى تحد من قيمته ومن تأثيره وفاعليته؛ فإذا كان انتصارها فى 1967 قد خلق ما يسميه بعض الإسرائيليين جمهورية إسرائيل الثانية، فإن هذا الانتصار ذاته أفضى إلى قيام جمهورية فلسطين الأولى فى إشارة إلى ظهور الكفاح الفلسطينى المسلح ومنظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح ومنظمات المقاومة الفلسطينية وظهور الاتحادات العمالية والنقابية والطلابية الفلسطينية وحركة عمد بلديات الضفة الغربية المنتمين لمنظمة التحرير الفلسطينية واكتساب النضال الفلسطينى المشروعية الإقليمية والعربية والدولية. كما أن انتصار 1967 الإسرائيلى شهد منذ غداة الانتصار، مقاومة مصرية ضارية من خلال حرب الاستنزاف فى سيناء وخوض حرب أكتوبر عام 1973، وهى الحرب التى تحقق فيها أول انتصار عسكرى مصرى - عربي، وذلك فضلا عن انتفاضات 1987 و2000 ومختلف أشكال المقاومة السلمية والعسكرية المستمرة حتى الآن. فى السادس والعشرين من فبراير عام 1980 تاريخ تبادل العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإسرائيل، يبقى فى الذاكرة حملة المليون علم فلسطينى التى أشرفت عليها القوى الوطنية، وبموجبها تم توزيع الأعلام الفلسطينية ورفعها فى كل أنحاء مصر، ردا على رفع العلم الإسرائيلي. تاريخ المصريين وثقافتهم وعروبتهم يدفعهم إلى إنصاف المظلوم، والشعب الفلسطينى ضحية الظلم التاريخى والتواطؤ الدولي، ولن يقبل المصريون بحال التخلى عنه فى محنته إلى أن يحصل على حقوقه المشروعة المعترف بها دوليا.