يحتفل العالم بأسره، فى التاسع من ديسمبر كل عام، باليوم العالمى لمكافحة الفساد، وهو اليوم الذى تم التوقيع فيه على اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد. وتعد هذه مناسبة جيدة لمعرفة مدى ما تحقق من إجراءات فى هذا الصدد.وجدير بالذكر أن مصطلحات الشفافية والمساءلة والحوكمة اصبحت من المصطلحات الدارجة فى الحوارات العامة، بل العامل المشترك الأعظم فى معظم اللقاءات والمنتديات الفكرية والسياسية التى عقدت على مدى السنوات الماضية. بل وتحولت هذه الموضوعات من هاجس وطنى داخلى إلى قضية عامة ودولية. ويرجع السبب فى ذلك الى الآثار السلبية العديدة التى يحدثها الفساد فى البلدان المختلفة، إذ أنه يضر بمناخ الاستثمار وبيئة الأعمال. حيث يشوه عملية وضع السياسات على نطاق واسع ويقوض مصداقية الحكومة. كما انه يمثل ضريبة إضافية على نشاط الأعمال ويعمل على تحويل الموارد بعيدا عن الخزانة العامة. وبالتالى انخفاض الإيرادات العامة إما بسبب التهرب الضريبى او التهريب الجمركى مما يؤدى الى ضياع قدر لابأس به من الأموال التى كان من الممكن ان تذهب لتمويل مشروعات محددة وتسهم فى تنمية الدولة، ويسهم فى تدنى كفاءة الاستثمارات العامة وإضعاف مستوى جودة البنية التحتية العامة، وذلك بسبب الرشاوى التى تحد من الموارد المخصصة لهذه الاستثمارات وتسيء توجيهها او تزيد من تكلفتها ، بالإضافة الى انتشار الوساطات والغش مما يؤدى إلى تدنى المشروعات العامة، وارتفاع تكلفة المعاملات وخاصة عندما يتحول الحصول على مكاسب شخصية الى عنصر من عناصر التكلفة، بدلا من العناصر الأساسية مثل النوعية والمواعيد وكيفية التوريد وغيرها من الأمور القانونية المهمة والمطلوبة لمنح العقود او لاختيار الموردين والمقاولين. ولاشك ان ارتفاع التكاليف لايقلل فقط من حجم الاستثمارات الجديدة والقائمة وفعاليتها، بل يؤثر أيضا على الاستثمارات الأجنبية مما ينعكس سلبا على النمو الاقتصادى بالبلاد. وكلها امور تؤدى الى تراجع معدلات النمو الاقتصادى وتعيق التنمية وتقوض الشرعية السياسية وهى عواقب تفاقم بدورها من الفقر وعدم الاستقرار السياسي. كما يساعد الفساد على زيادة حدة الاستقطاب الاجتماعى من خلال التدهور فى توزيع الدخول والثروات مما يقلل من الكفاءة المجتمعية ويزيد حالات الانقسام فى المجتمع.بل وقد يؤدى إلى الانهيار فى الديمقراطية او تدهور نوعيتها. وينبغى ألا يفهم من ذلك ان الديمقراطية تمثل درعا ضد النهب الذى يقوم به الأقوياء أو ضد ممارسة الحكومات سلطاتها لمنفعة شريحة معينة من النخبة السياسية، فمن المؤكد انه لايوجد اى ارتباط بين مستويات الديمقراطية ومستويات الفساد ، فالديمقراطية لا تضفى أى حصانة تلقائية ضد الانحراف الوظيفي، وخير دليل على ذلك ماحدث من انحرافات فى اعتى الدول الديمقراطية. لكل ماسبق تزايدات أهمية الحديث عن ضرورات الإصلاح المؤسسى والهيكلي، جنبا إلى جنب مع الإصلاح الاقتصادي، خاصة من جانب مؤسسات التمويل الدولية كالصندوق والبنك الدوليين. وفى هذا السياق أيضا تطور مفهوم التنمية والتقدم من النمو الاقتصادى الى التنمية الاقتصادية الى التنمية البشرية وأخيرا إلى التنمية الاحتوائية، اى الانتقال من رأس المال البشرى إلى رأس المال الاجتماعى واقترن ذلك بإدخال مفهوم الحوكمة او الحكم الصالح فى سلة الإصلاحات المطلوبة. ويتعمق مفهوم الحوكمة بتحول مضمون الديمقراطية من التمثيل النيابى إلى المشاركة والشفافية والمساءلة. من هنا تأتى أهمية المنهج أو الأسلوب الذى تمارس به السلطة مسئوليتها، ونقصد به قوانين اللعبة التى تتفق عليها جميع الأطراف المعنية وتشرف على تنفيذها مؤسسات منفتحة تتقبل مساهمة الجميع لأنها تعمل وفقا لمبادئ ومعايير الشفافية. وتقوم الشفافية أيضا على تعميم المعلومات المتعلقة بحقوق المواطنين والخدمات التى يحق لهم القيام بها وسبل الحصول على تلك الحقوق. ويشمل ذلك التقاليد والمؤسسات التى تمارس بها السلطة فى بلد ما من أجل الصالح العام، مثل عملية اختيار القائمين على السلطة ومراقبتهم واستبدالهم، وقدرة الحكومة على إدارة مواردها بفعالية وتنفيذ سياسات سليمة واحترام مؤسسات الدولة. ولهذا تشترط الشفافية توافر المعلومات الدقيقة فى مواقيتها وإفساح المجال أمام الجميع للاطلاع على المعلومات الضرورية والموثقة، ويجب ان تنشر بعلنية ودورية من أجل توسيع دائرة المشاركة والرقابة والمحاسبة ومحاصرة الفساد من جهة، والمساعدة على اتخاذ القرارات الصالحة فى السياسة العامة من جهة اخرى. لذلك فأننا نتفق مع ماذهب إليه دافيد نوسبوم، المدير التنفيذى الأسبق لمنظمة الشفافية العالمية، والذى يرى ان الفساد ليس كارثة طبيعية لافكاك منها، بل هو عملية منظمة تهدف إلى سلب الفرص من الرجال والنساء والأطفال العاجزين عن حماية أنفسهم. بالإضافة الى انه لايمكننا القول إن الفساد هو ظاهرة اجتماعية واقعة حتما عبر الزمان والمكان او ان المجتمعات متساوية فى نصيبها من هذه الظاهرة. لذلك يصبح من الضرورى العمل على الحد من الفساد وتحقيق مجتمع أكثر شفافية وهو ما يتطلب العمل على عدة محاور بعضها يتعلق بإستراتيجية الإصلاح وأولوياته والبعض الأخر يتعلق بالسرعة الواجب التنفيذ بها، والمرونة التى يجب ان يتمتع بها.خاصة ان التجارب الدولية المختلفة قد اشارت إلى أهمية التلازم بين الديمقراطية واقتصاد السوق، بل ان هذا التلازم شرط أساسى لإنجاح التنمية الاقتصادية. وقد ارتبطت التجارب التى نجحت أساسا بتدعيم آليات المشاركة الشعبية والديمقراطية والشفافية، وتطبيق مبادئ الإدارة الرشيدة عند وضع السياسات المختلفة، ولم تقتصر فقط على بعض الإجراءات والعمليات المتعلقة بالانتخابات. وبمعنى آخر فان مكافحة الفساد تتطلب وجود حزمة من القوانين المدنية والجنائية الواضحة والمعلن عنها بالقدر الكافي، مع إنفاذ القواعد القانونية والتنظيمية، ووجود جهاز قضائى مستقل، وتعزيز النظام الضريبى والإدارة الضريبية، وزيادة شفافية المالية العامة، وتفعيل إجراءات المحاسبة المالية، وتطوير الجهاز الإدارى للدولة، مع تفعيل المنافسة. ورغم أن الحكومات المختلفة قد قطعت شوطا كبيرا فى هذه المجالات ، فأنه مازال هناك العديد من الإجراءات التى قد تستغرق بعض الوقت، إلا إنها تعتبر ضرورة قصوى لإنجاح هذه العملية.