تكتب الخائن هو كل من لم يحافظ على الأمانة أو الذي لا يلتزم بالتعهدات أو لا يحترم ثقتنا به وينقض الاتفاقات المبرمة بيننا؛ أو يحقق مصالح الأعداء بدلا من مصالحنا ولا ينبهنا، ولا يكتفي بذلك؛ بل يحرضنا على التمادي في الخطأ ويخدعنا فيبرره وووو. والخيانة قد تبدأ بتصرف صغير؛ وإن لم تتوقف تقود للأكبر.. ومع الأسف فكلنا فعلنا ذلك بأنفسنا ونواصل فعل بعض منه، ونسكت أي أصوات تطالبنا بالتوقف عنه وربما قاطعنا أصحابها؛ وذلك يعتبر تماديًا في خيانة النفس .. وأسوأ خائن هو الذي يزين خيانته ويتباهى بها فيصل لإدمانها؛ والمدمن يفتش عن أي أسباب ليواصل إدمانه ويربط بينه وبين السعادة وأحيانا القدرة على مواجهة الواقع والتعامل معه.. يضعف المدمن نفسه ويهزمها بالادعاء أنه لا يستطيع سحق إدمانه والحقيقة أنه لا يرغب؛ خوفًا من مواجهة نفسه بأسباب الإدمان أو لخوفه من تحمل فترة الانسحاب من الإدمان أو خوفًا ألا يجد نجاحًا وسعادة "تعوضه" عما يراه راحة بإدمانه وهو في الحقيقة ليس إلا غرقًا. من منا لم يدمن ما يعطله ويؤذيه ويخذل نفسه كالتراجع عن خططه التي يضعها أول كل عام؛ من منا حولها كلها إلى حقائق يستحقها ولم يكتف ببعضها والبعض ينظر للأقل منه ليس ليشكر الوهاب على ما متعه به، ولكن ليتوقف عن السعي للأفضل؛ وليهزم نفسه بثقافة القبول بالحد الأدنى رغم إمكانات التقدم.. يتجاهل الكثيرون من الجنسين ليس فقط الشعور بخطأ الاستمرار في علاقة - صداقة أو حب أو عمل - ولكن لمؤشرات قوية تخبره بأن الطرف الآخر مخادع؛ ومع ذلك استمر للهرب من مواجهة ما يؤلمه أو لانتظار ما يثبت عكس الدلائل أو كسلًا من البحث عن بديل؛ ويدفع الثمن باهظًا ولو بعد حين.. والبعض يخون نفسه بالتعامل مع من يهتمون بهم ويحبونهم وكأنهم أحد ممتلكاتهم؛ فيرون عطاءهم مضمونًا ولا يحسنون تقديره وربما تعاملوا معهم كمكب لنفاياتهم؛ فيرمون عليهم بكل تقلباتهم العصبية والنفسية ويتذكرونهم فقط عند أزماتهم، أما في الأفراح فيتجاهلونهم ويحتفلون مع غيرهم؛ ويفاجأون يومًا بتحولهم عنهم ورفضهم أي اقتراب إنساني أو عاطفي معهم؛ فقد فاض الكيل، فلا أحد يحب التواصل مع من يراه شيئًا "مضمونًا" للاستخدام عند الاحتياج. نخون أنفسنا بالسماح للدنيا بالتهامنا وافتراسنا ونحن أحياء؛ وذلك باللهاث بلا هوادة؛ للسعي لنكون أفضل ماديًا وبالعمل وحرمان النفس؛ ليس من استراحة محارب فقط؛ ولكن أيضًا من الاستمتاع بما حققناه والفرح الناعم الذي يذيب الإجهاد النفسي والذهني.. ولعل هذا ما قصده أرنست هيمنجواي وهو من أهم أدباء القرن العشرين وحائز على جائزة نوبل للأدب؛ عندما قال كلامه "المؤلم": منذ الصغر وأنا أصل لما أريد؛ لكني أصل وأنا منهك بالقدر الذي لا يجعلني أفرح؛ وكأني أريد أن أصل لأستريح؛ فقط لأستريح. وهو كلام مؤلم لأن أرنست مات منتحرًا؛ رغم كل ما حققه من مجد أدبي.. ومن أسباب الإدمان التعرض للصدمات النفسية وقلة الاحترام للذات والاستسلام للضغط العصبي؛ ولا يوجد إنسان واحد في الكون لم يتعرض لتلك الصدمات النفسية؛ ويجب استعادة الثقة بالنفس واكتساب الخبرات ورفض الانكسار. والبعض يخون نفسه بإدمان الإنترنت ومتابعة "نقائص" البشر والتفنن في إصدار أحكامه عليهم؛ وتناسي أنه "يبدد" ثروته الحقيقية وهي عمره؛ الذي يتسرب منه دون أن يدري؛ كما يخون عقله؛ في الإسراف بمتابعة الإنترنت والفضائيات التي تعطل العقل، والعقل إن لم يتطور ويتحسن يتراجع؛ والتطور يحتاج أولا لليقين، إنه يمكن أن يكون أفضل ثم بالتفتيش عن مواطن ضعفه؛ وكلنا لدينا ضعفنا؛ ليس ليجلد نفسه ولكن لينتبه لها ثم ينمي مواطن قوته ويزيد مهاراته بتدرج وبلطف.. ونعرف جميعًا قصة المحارب الذي أراد ملك مكافأته على بسالته؛ فقال له اركض بحصانك كما ترغب ولك "كل" الأرض التي ستسير عليها؛ فما كان منه إلا أن واصل الركض بضراوة ولم يرحم نفسه؛ فهلك هو والحصان ولم يفز بأي من ثمار كفاحه.. ومن أسوأ الخيانات للنفس تناسي الآية الكريمة: "ألم يعلم أن الله يرى"؛ فمن يتناساها؛ يوقع نفسه في أذى بالغ يخصم منه دينيًا ودنيويًا؛ والأولى معروفة، والثانية؛ لأنه سيضيع أوقاتًا غالية من عمره بالكذب وبالخداع وبأقوال وتصرفات تجعله صغيرًا بأعين الناس؛ وسيخسر ولو بعد حين؛ فضلَا عن الفواتير النفسية والصحية التي سيدفعها "مرغمًا" وهو يتفنن في أنواع الاحتيال.. ومن خيانة النفس الشائعة؛ القبول بعلاقات تنتقص من تقدير الذات هربًا من الوحدة، وإهمال الصحة الجسدية وزيادة الوزن الكبيرة وإهمال المظهر أو المبالغة بالاهتمام به وكأنه "البوابة" للشعور بالأهمية، أو بذل المستحيل للفوز بإعجاب الناس وجعل ذلك غاية؛ وتجاهل أن الناس مشغولون بأنفسهم ولا يتذكرون غيرهم إلا عند رؤيتهم فقط؛ ثم يعودون للاهتمام بشئونهم؛ وأن من الذكاء تذكر ذلك.. وكأي إدمان لابد من توافر "إرادة" التعافي والإصرار على التخلص منه وإغلاق كل الأبواب والنوافذ والحجج والمبررات التي تؤدي إليه أولا بأول؛ وإذا حدثت انتكاسات؛ فلا نستسلم ونركلها بأقدامنا؛ لأننا نستحق النجاة.