يزدحم الفضاء العام في مصر بمواقف واتجاهات لا تعد ولا تحصى، حول كثير من القضايا الخلافية والجدلية في الدين والسياسة والتاريخ القديم والحديث .. إلخ، وظاهريًا يبدو ذلك علامة صحية تقيس مدى حيوية المجتمع وتفاعله السريع مع ما يثار فيه بصرف النظر عن صغره أو كبره، وأحيانًا نستهلك وقتًا طويلًا في النقاش واللف والدوران دون التوصل لأرضية مشتركة يقف عليها الفرقاء والخصوم المختلفون. إلى هنا لا توجد مشكلة من الأساس والأمور طبيعية تمامًا، لكن غير الطبيعي والباعث على القلق أمران يمثلان خطرًا داهمًا، الأول التوقيت ومغزاه، والثاني الشطط منِ جهة مثير القضية ومَنْ يتناولها بالنقد وتفصيل عناصرها لدحضها وإظهار فسادها وضررها، واستخدام أعنف الأساليب لإهالة التراب فوق رأس طارح القضية موضع الاختلاف، وللأسف فإننا نفتقر عمليًا وفعليًا لثقافة وآداب الاختلاف، بسبب استعدادنا الفطري للجنوح الدائم للشطط في ردود أفعالنا، واستسهالنا إصدار الأحكام الباتة القاطعة بحق الآخرين. المثال العملي والتطبيقي الشارح لما سلف كان الجلبة التي أثارتها الدكتورة آمنة نصير أستاذة العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، بحديثها عن جواز زواج المسلمة من مسيحي أو يهودي، نظرًا لعدم وجود نص قرآني بتحريمه، حسب قولها، ثم إعلانها لاحقًا تحت وطأة رد الفعل العنيف أنه جرى اجتزاء تصريحاتها وإخراجها من سياقها الذي أرادت توضيحه للناس. الواقعة أشعلت نارًا مستعرة، وسارع الأزهر الشريف ومعه دار الإفتاء ومؤسسات أخرى لإخماد الفتنة في مهدها قبل اتساع نطاقها، وإعادة التذكير بما هو مستقر ومعلوم بالضرورة لدى العامة والخاصة بشأن تحريم هذا الزواج. من ناحيتها فإن الدكتورة آمنة لم تحسن اختيار التوقيت المناسب للكلام في قضية شائكة تعلم قبل غيرها حجم ما يمكن أن تثيره من أزمات واحتقانات دينية لسنا في حاجة إليها من الأصل، حتى لو كانت حجتها محاولة الاجتهاد في مسألة قالت إنها محل اتفاق بين الفقهاء وأهل العلم، فباب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه، شريطة حسن انتقاء موضوع الاجتهاد وأوانه وكذلك حيثياته، وأن يظل المجتمع واستقراره حاضرًا في ذهن المجتهد. فهل نظرت الدكتورة آمنة قبل الشروع في قول ما قالته إلى سلم أولوياتنا ومكان زواج المسلمة من غير المسلم فيه، وما إذا كان يُشكل مرتبة متقدمة تستلزم وتلح لطرحه الآن بصورة عاجلة دون انتظار، وبهذا الشكل، وهل وضعت في اعتباراتها وحساباتها أن الظروف الراهنة غير ملائمة بالمرة، بعد أن نجحت السلطات المختصة في وأد فتنة الإساءة للنبي محمد "صلى الله عليه وسلم" والسيد المسيح "عليه السلام" من قبل أشخاص متهورين عبر منصات "السوشيال ميديا"، وهؤلاء فعلوا فعلتهم النكراء دون تقدير لعاقبتها ومآلها؟ شطط الطرح قوبل بشطط أشد وأخطر من الناقدين الذين خلع بعضهم عن الدكتورة آمنة عباءة الإسلام، أما البعض الآخر فقد كال لها الاتهامات وبلغ التجريح مبلغه ممن نصبوا أنفسهم حراسًا على الدين من التيار السلفي وغيره من جماعات الإسلام السياسي، مع أن هذه الفئة السائرة خلف الشيخ الفلاني أو الشيخ العلاني لا يُعقبون على ما يصدر منه من فتاوى وآراء مقطوعة الصلة بصحيح الدين، وتشعل الفتن بين أصحاب الأديان السماوية، وينظرون للمخالفين والمعارضين لهم نظرة دونية، ربما تصل لحد تكفيرهم واستباحة أعراضهم وأموالهم. والذاكرة عامرة بوقائع وأحداث سابقة تسبب فيها الشطط والغلو في إزهاق أرواح مسلمين تبنوا منهجًا وأفكارًا اعتبرها بعض المهووسين والمتاجرين بالدين أنها تسير عكس ما قرره الدين الحنيف، وأباحوا قتل معتنقيها، وزعموا أن القتل أداة تقرب القاتل من رب السماوات والأرض وتدخله جناته من أوسع أبوابها، والمدهش أنه بعد مرور وقت من تلوث أيديهم بدماء الأبرياء يجاهرون بأنهم أخطأوا وجانبهم الصواب، وكأنهم بذلك يعفون أنفسهم من المسئولية والجرم الذي سيلاحقهم إلى يوم الدين!!. المأساة الأكثر إيلامًا أننا لا نتعلم من أخطاء الماضي ونكررها بصور مغايرة إن لم تكن بالشكل نفسه، وفي كل الأحوال يتعين على المجتمع دفع أثمانها الباهظة وتحمل تكاليفها في أوقات يحتاج فيها لوحدة الصف والهدف وليس بعثرة جهده واستنزاف طاقته على مسائل غير مجدية وعديمة النفع، ولا ينتج عنها سوى الشقاق والانقسام وهز الجبهة الداخلية. وتتضاعف المأساة وملحقاتها بما يبدر من غير أهل الاختصاص، فلدينا الأزهر الشريف و دار الإفتاء المصرية و الأوقاف وغيرها الكثير من المؤسسات المؤهلة القادرة على التفنيد والرد على الآراء الصادرة من هذا أو ذاك، وتصحيح المفاهيم المعوجة، لكننا نجد أناسًا في الأزقة والحواري يعتلون منابر المساجد والزوايا ويفتون بغير علم، ويأخذ عنهم الجالسون أمامهم، دون إعمال عقولهم فيما يصل لآذانهم، والطامة الكبرى تكتمل بما يتناقله مستخدمو وسائط التواصل الاجتماعي دون وعي ولا تفكير، ويسكبون بواسطته البنزين على النار. واتقاءً لما يتمخض عن ذلك من نتائج غير حميدة وفواجع، تخلخل ركائز وأعمدة المجتمع المستقرة يجب علينا إعادة ترتيب فقه أولوياتنا والحرص بدأب على تجديده تبعًا لما نمر به من تحديات ومنعطفات، وأن نفرض سياجًا عازلًا يحول بيننا وبين الشطط الذي يجر خلفه الويلات والمآسي الرهيبة على الأوطان.