عشت أياماً صعبة في المدرسة بسبب عبارة "اللي مدافعش المصاريف يطلع برة" بسبب الفلوس كنت أنتظر أصحابي خارج السينما ولما يخرجوا يحكوا لي قصة الفيلم كنت أغني في الكافيهات ب 200 جنيه حتى أدخر مصاريف الجامعة جنازة العندليب كانت السر في حلمي لأن أصبح مطربا رغم الظروف الصعبة.. أمي زرعت بداخلي الطموح "الحكايات التي تنتهي، لا تنتهي ما دامت قابلة لأن تروى" كلمة قالتها الأديبة الرائعة الراحلة رضوى عاشور تلخص حيوات طويلة عشناها ومرت بجانبنا، فمادام في الصدر نفس وفي العقل ذكريات وعلى اللسان كلمات فالحكايات القديمة يمكن أن تولد من جديد لتأخذ قبسا من الحياة، في هذه السلسلة "قبل البداية" نسترجع مع أبطالها القصة من جذورها، نسرح معهم من البداية البعيدة، يقينا منا إن آثارها كانت حتمية على ما آلت إليه حكاياتهم الآن، نبدأ مع الأب والأم، كيف تعرفوا وكيف كانت أيام الطفولة، كيف كانت ذكريات ما قبل الشهرة، ذكريات التكوين، ذكريات الأحلام، ذكريات الواقع الوردي عند البعض، والبائس عند الآخرين، بطل الحلقة الثانية من هذه السلسلة هو فنان استثنائي لم يكن أبدا طريقه مفروشا بالورد، لكنه استطاع رغم ذلك الوصول للقمة.. الفنان تامر حسني . في ستينات القرن الماضي ظهرعلى الساحة الغنائية في مصر مطرب شاب بدا واعدا، اهتم به الملحنون وقتها وغنى نشيد النادي الأهلي وكان جدوله مليئا بالحفلات في مصر وخارجها، وفي سوريا وفي أحد العزومات التي دعا لها الفنان الكبير دريد لحام تعرف الفنان حسني الشريف والذي كان هناك لإحياء مجموعة من الحفلات الغنائية على فاطمة ليبدأ معها قصة حب كللت بالنجاح، وعادا للقاهرة من جديد ليستأنف نشاطه الفني حيث كان وقع بعض العقود لبطولات الافلام بخلاف أغنيات اتفق عليها مع كبار الملحنين منهم بليغ حمدي، كانت الحياة مثالية وربنا رزقهما بحسام وبعده تامر، لكن، وفجأة انقلب الحال، لسبب لا يعرفه ألغيت عقود الأفلام وذهبت لمطرب شاب آخر، توقفت المشاريع الغنائية، لم يتحمل حسني كل هذه المفاجآت، اصيب بالشلل لعامين وعندما استجمع شتات صحته من جديد وبدأ المحاولة وجد أنه خارج الصورة تماما، لم يطيق أن يرى نفسه مهزوما، وبدون مقدمات ترك منزله، ووطنه كله وسافر إلى حيث لا يعرف أحد مكانه، ليترك اسرته الصغيرة وحدها في مواجهة الدنيا بأكملها. يقول تامر حسني "مكناش نعرف وقتها هو فين، عرفنا بعدين انه راح سوريا لكن وقتها فضلنا ندور ونسأل من غير ما نوصل لمكانه" ولكن كيف لفاطمة السورية أن تواجه الحياة في بلد غريب وفي رقبتها طفلين وحدها؟ يقول تامر "حياتنا ومدارسنا كانت مستقرة في مصر، وفاكر انها سألتنا وقتها وقلنا لها هنكمل في مصر، غير انها فضل عندها أمل إن بابا يرجع وكانت منتظراه وكل الحسابات دي خليتنا مش قادرين نبعد عن البلد". انحصرت علاقة تامر بوالده فيما بعد في أشرطة الكاسيت، كان والده يسجل بروفات الأغاني التي يعمل عليها على أشرطة كاسيت، وكان يقضي تامر وقته في سماعها، كان الأمل في عودته القريبة مازال مشتعلا، ولكن للظروف والواقع رأيا آخر، كان على فاطمة الغريبة في مصر أن تواجه المجتمع لتقود سفينة الأسرة وحدها إلى بر الأمان، " اول حاجة حاولت تشتغل في مهن تشبه ثقافتها، فاشتغلت في التدريس ثم دخلت مع أصحابها في مشاريع صغيرة لم تنجح، كان فيه حجات بتتباع، نبيع البيت ونجيب اصغر، وبعدين نغرق في الديون للجيران وللصحاب وللمدرسة، وبعدين كان في جملتين دايما يتعبوني جدا، الأولي "اللي مدافعش المصاريف يطلع بره"، وده بعيشها كل شهر وكل سنة، والتانية في كل احتفال "ولي امرك لازم ييجي" وانا والدي مش موجود، فدي بتسيب شجن العمر كله". استمرت الحالة في التدهور، وظل كل يوم يكون أصعب من اليوم السابق له، "كنا ساكنين في الهرم، في شارع فاطمة رشدي وبعدين انتقلنا لنصر الثورة وبعدين المريوطية وبعدين شارع فيصل وكل مرحلة المستوى الاجتماعي والاقتصادي كان يتدهور جامد جدا لأبعد ما تتخيل، يعني مرت أيام كنا نقعد نبص لبعض مفيش حتى عيش حاف، مفيش أي حاجة "يتذكر تامر كيف كانوا يتحايلون على الظروف الصعبة فيكمل كلامه قائلا" يعني النهاردة انا استلفت من جار عيش.. بكره أنت يا حسام استلف من اللي قدامنا، بعد بكره استلفى يا أمي من الجارة اللي في السابع، بعد كده مفيش حد يرد عليك خالص، بعد كده حد يظهر يديك حاجة تفرح بيها بس تبقى عارف انه مش هيقف جنبك طول العمر". كل هذا ولم تفقد فاطمة أبدا الأمل في عودة حسني، ولم تزرع ولو للحظة حقدا في داخل ابنيها تجاهه "كانت تقولي بابا هيرجع يحل المشاكل وهو بيشتغل علشانك، ولكن كنت بشوفها بتعيط، وانا مش بلومه بالعكس عذرته خاصة بعدما كسره المرض، وبعد ما بقيت مشهور دورت عليه وبقيت عايش تحت رجليه وعرفته اني أكمل حلمه "يقول تامر والذي وعي مبكرا أن والده لم يعد في الصورة، وأن المشهد صعب، وانه لا وقت لألعاب الطفولة وترفها، فوفاؤه لأمه يتوجب عليه أن يحمل هم الرجولة مبكرا، وهو ما فعله فعلا. يقول تامر "اخويا بدأ يحبط وتعب نفسيا ومكنش مؤهل يشتغل ودايما مش عاوز يعمل حاجة مكنش زيي، كان زعلان وأنا كنت زعلان لكن مش هسيب أمي تتبهدل، وعلشان كده في سن 13 سنة بدأت اشتغل، شوية اقف في سوبر ماركت، مرة اشتغلت في الفاعل في بناء مسجد، كنت فرحان يعني يا بخت اللي يساهم في بناء مسجد وكنت أكسب يومية بسيطة، ومرة اشتغلت في بنزينه بس ماكلمتش، ومرة في مكتبة، ومرة في شركات كنت أخد منها زجاجات عطور وأدور أبيعها في الشوارع". كل ما سبق كان يمكن أن يؤدي بصاحبه الى طريق الضياع المؤكد، ولكن مع تامر، وبفضل كبير من أمه، اتخذ الأمر منحنى مختلفاً في شخصيته، فكلما ذاق ظروفا أصعب ازداد إصراراً على تغيير واقعه بعرقه، وازداد طموحا وتمسكا في أقل الفرص، بل قد تكون الجنيهات القليلة التي من أجلها اشتغل في الفاعل وتحمل كل المعاناة من أجلها هي من عملته التشبس بحلمه وعد التعب من الجري وراء اشباه الفرص. اهتمت وقتها فاطمة بزرع الطموح في نفوس ابنيها، وقتها كان حسام يحلم بأن يكون مطربا فبدأ التدريب على الغناء، بينما حلم تامر بأن يصبح لاعب كرة، ورغم مسئوليات عمله واهتمامه بدراسته إلا انه تمسك بلعب الكرة ولعب بالفعل لنادي الزمالك وختم مشواره في النادي الأهلي، كبر الطفل واصبح في مقتبل الشباب لكنه لم يذق طفولته ولا حتى مراهقته "مكنتش بقدر اخرج مع اصحابي اي خروجة حتى لو رايحين سينما كنت استناهم بره يتفرجوا ع الفيلم ويخرجوا يحكولي، او يجمعوا من بعض ويدخلوني وده مش دايما، الموضوع جه معايا عكسي اني نفسي انجح علشان اي ناس اقدر اساعدهم لاني حسيت بوجع رهيب "يقول تامر والذي بدأ حلمه في كرة القدم يصل لمحطة النهاية بعد استغناء النادي الأهلي عنه وعدم تصعيده للفريق الكبير ويكمل الحكاية قائلا "لقيتهم استغنوا عني بعد سن 18 ولكن وقتها كانت امي شايفه اني مطرب واني لازم اغني ومن صغري كانت بتجيبلي أشرطة قديمة اسمعها ودخلتني معهد الموسيقى ورغم ان الكرة هي دماغي بس كنت أروح لأني كنت أصدقها". ولكن تخيلوا معي، جنازة كانت السبب في تحول حياة تامر حسني ، كان يشاهد أحد الأفلام وشاهد مشهد لجنازة عبد الحليم حافظ، وقتها انبهر بما رآه من حب الناس، كل هذا الاخلاص في الحب من أجل مغني؟ لماذا لا أكون مثله، لماذا لا يكون لي حب كحبه؟. هنا بدأ تامر حلما جديدا، فبدأ في بحثه عن لقمة العيش العمل بموهبته "كنت أغني في الكافيهات والبرامج" يقول تامر والذي حصل على مجموع 73 % في الثانوية العامة، وقتها قدم في معهد الفنون المسرحية فلم يقبل، فدخل كلية الحقوق ولكنه شعر بأنه تائه بعيدا عن حلمه، فقرر تحدي الظروف من جديد ومن دخله في الغناء دخل كلية الإعلام في احدى الجامعات الخاصة، كان التحدي كبيرا، وكان مطالبا منه بأن يعمل طوال الوقت، يغني في كل مكان، يظهر في سهرات تليفزيونية ليغني، مقاهي، أفراح، هو يعرف حجم المسئولية والتحدي، ويدرك قيمة الحلم الجديد الذي يسعى إليه. يقول تامر "وانا في الجامعة بدأت اعمل برامج، اي برنامج عاوزين واحد بجيتار يغني كانوا يجيبوني، والبرامج دي ساعدتني أكمل دراستي، في الكافيه كنت أخد سكة 200 جنيه، البرنامج 400 جنيه، اول فرح خدت فيه 400 جنيه كان في شيراتون هيليوبليس". الطريق الجديد لم يكن مفروشا بالورد بالمرة، فصديقنا لا يقنع بما سبق، هو يبحث عن المجد الذي رآه في العندليب، ولهذا كان يمشي في الطرق لنهايتها بحثا عن ضوء صغير في النهاية، يقول عن الصعاب التي ققابلها في بدايته" مرة كنت مع محمد رحيم واتقابلنا بالصدفة عند منتج كان قال انه هيطلع مواهب جديدة وطلب من كل واحد مبلغ على أساس يكمل بيه إنتاج الألبوم، محمد راح بمبلغ وانا روحت بعت كنبة وتليفزيون واتصرفت وجبت الفلوس للراجل وروحت بعد فترة لقيت شباب كتير واقفين والراجل مش موجود لأنه "نصاب"، وقتها قعدنا علي السلم نعيط احنا الاتنين" موقف آخر عندما تحمس له أحد المنتجين وقال له انه سيأتي للجامعة حتى يسمع صوته في أحد الحفلات، الغيرة جعلت زملاء له أن يسرقوا السماعات حتى لا يستطيع الغناء وتضيع الفرصة. ولكن-وليس كل لكن حزينة- هذه المرة وللصدفة كانت الاعلامية سلمى الشماع في ندوه بالكلية، ذهب تامر لها وعرض عليها موهبته، فأخذت رقم تليفونه ووعدته بالوقوف بجانبه، تمر الأيام ويعود مرة للمنزل متعبا فيجد ورقة كتبتها له أمه تقول فيها إن سلمى الشماع اتصلت به وتنتظر اتصاله في أقرب وقت، يكلمها فتقول له انه تحضر لحفل كبير في قناة المنوعات وانها تنوي تقديمه فيه، في الحفل ينال تامر اعجاب الحضور حتى ان الفنان محمد هنيدي رفع يده وطلب من الحاضرين التصفيق لنجم المستقبل، وأمام الشاشة كان المنتج نصر محروس يشاهد الحفل فيعجب بصوته ليتبناه وينتج له أول ألبوماته، "تامر وشيرين" والذي كان بالفعل الانطلاقة الكبرى لفنان وفنانة أصبحا علامة على جيلهما في الغناء. نقلا عن مجلة الشباب