د. جابر عصفور وصلنى خطاب من صديقى الدكتور أحمد أبو العطا ، وهو يعيش فى إنجلترا منذ أكثر من أربعين عامًا متنقلًا بين عواصم أوروبا بحكم عمله أستاذًا جامعيًّا للتكنولوجيا المُتقدمة. وها أنا أنشر خطابه كما هو لأهميته، وسوف أُعقِّب عليه فى مقالٍ لاحق: عزيزى الدكتور جابر عصفور : تابعتُ خلال الأسابيع الماضية ردود الأفعال حيال جريمة قتل مُدرس تاريخ فرنسى وقطع رأسه. وقد لاحظتُ خلال هذه المتابعة لوسائل الإعلام التقليدية، والكثير من مواقع التواصل الاجتماعى، اختفاء الحقائق الأساسية. وأدى هذا إلى أن الصورة تحوَّلت إلى كثيرٍ من الضباب وقليل من النور. ولأنى مواطن مصرى مسلم يعتز بوطنه ودينه، فقد شعرتُ أن من واجبى أن أحاول إلقاء بعض الضوء على كثيرٍ من الحقائق التى قد تكون قد غابت عن بَنى وطنى. فى الخامس من أكتوبر المُنصرم، وخلال درسٍ عن حرية التعبير و الدستور الفرنسى ، عرض المدرس صامويل باتى عددًا من نماذج التعبير عن الفكر التى سبَّب بعضها مشكلات داخل المجتمع على مدى التاريخ. وكان من بينها عددٌ من رسوم الكاريكاتير للرئيس ترامب وماكرون وللمسيح ونموذجان من الرسوم التى ظهرت فى الدَنمارك فى سبتمبر 2005 ونُشرتُ فيما بعد فى مجلة شارلى إبدو الفرنسية فى 2006 وسُميت بالرسوم المسيئة للرسول. وكلنا نذكر أن نشر هذه الرسوم قد أدى إلى حالةٍ من الغضب الشديد اجتاحت العالم العربى والإسلامى، وانتهت بهجومين على مبنى المجلة فى باريس : الأول بالقنابل الحارقة فى 2011 ثم بواسطة إرهابيين مُسلحين قتلوا 12 شخصًا فى 2015. وأدى الهجوم الأخير إلى اعتقال شبكة المُهاجمين ومعاونيهم الذين بدأت مُحاكمتهم هذا العام. وحتى نزداد فهمًا لهذا الموضوع المُعقد فلا بد من تذكر التاريخ الأوروبى الحديث لإنارة الخلفية الحقيقية لما جرى ويجرى. خاضت أوروبا سلسلة من المعارك الشرسة بين أفكار التنوير والعقلانية وسلطان الكنيسة المتشددة منذ القرن السادس عشر، ودفعت قوى الحداثة والتنوير ثمنًا باهظًا من الدماء فى محاولتها لتغليب سُلطة العقل - وفيما بعد، العلم- على الفكر الدينى المتجمد فى وقتها. وكانت الثورة الفرنسية إحدى أهم المعالم الرئيسية لهذه المعركة، وربما أهمها من ناحية التأثير والنتائج. فقد أدى انتصار هذه الثورة إلى نتائج هائلة أثَّرت على حركة الفكر وشكل الدولة فى فرنسا أولًا، ثم فى أوروبا كلها وفيما بعد فى الولاياتالمتحدة والعالم. ولعل أهم هذه النتائج هو: ظهور الدساتير الحديثة، وحركة حقوق الإنسان، واستقلال الدولة عن الكنيسة، وتأسيس حُكم القانون بوصفه المرجع الوحيد لحقوق المواطنين وتنظيم المجتمع. هذه المبادئ هى ما يُعرف بالعلمانية التى ليست فى عداءٍ مع الأديان، بل فى تَصالحٍ يفصل بين حق المواطن فى ممارسة دينه، وحق المجتمع فى تنظيم حياته طبقًا للقانون والنظام العام. ومن أهم الحقوق والحريات التى ينظمها الدستور والقانون، حرية التعبير. وفى الوقت نفسه أصبح التعليم فى فرنسا تعليم الدولة. تدرس فيه الأديان على أنها جزء مهم من الثقافة والتاريخ، وتُعامل بالاحترام اللائق بها، ولكنها لا تُعتبر مصدرًا للقانون، أو الأخلاق، أو حُكم المجتمع. هذه هى الخلفية التاريخية والاجتماعية التى يتعين علينا فهمها لشرح العمل الذى كان المدرس الفرنسى يقوم به. فهدف الدرس هو تقديم فكرة حرية التعبير وموقفها من الدستور والقانون ونتائجها الإيجابية أحيانًا والسلبية حينًا. وخلال الدرس عرض عددًا من الصور والرسوم التى ظهرت على مدى عقودٍ كثيرة، والتى أدى بعضها إلى ردود أفعال بين قطاعات من المجتمع. واتقاء لرد الفعل تجاه رسوم شارلى إبدو فقد سمح المدرس لأى من طلابه ممن قد يستاء من هذه الرسوم بعدم النظر إليها خلال الدرس. إلا أن الأمر لم ينتهِ مع نهاية الدرس، فقد قام والد إحدى التلميذات واسمه إبراهيم بشن حملة على الفيسبوك ضد المدرس، مُتهمًا إياه بازدراء الإسلام والرسول. وعلى الفور انضم إلى الحملة مُتطرف إسلامى اسمه عبد الحكيم صفريوى الذى أثار إعصارًا من الهجوم مُطالبًا بفصل المُدرس ومُحاكمته وقتله. من الجدير بالذكر أن ابنة إبراهيم لم تحضر الدرس الذى كتب عنه أبوها. استجاب لنداء القتل، شاب من أصل شيشانى اسمه عبدالإله أنزوروف عمره 18 سنة. هاجر والداه إلى فرنسا عام 2006 وأصبحا لاجئين لدواع إنسانية ومُنِحوا جميعًا حق الإقامة والعمل. ودخل عبد الإله المدرسة حيث بدأ رحلته التعليمية على حساب الدولة الفرنسية. إلا أن تحقيقات البوليس أثبتت أنه كان على صلة بإرهابيين فى إدلب بسوريا، وأنه تفاعل مع الحملة التى قادها إبراهيم وصفريوى. ما نتائج هذا الحادث؟ فَقَدَ المسلمون الذين وقف العالم معهم خلال وبعد مذبحة المسجد فى نيوزيلندا تعاطف الناس وبدا للمجتمع الإنسانى أن قِطاعًا عريضًا من المُنتمين للدين الإسلامى أصبحوا خارج إمكانية المُناقشة والحوار حيث لغتهم الوحيدة هى السكين أو القنبلة. وضاعت من المشهد، أسباب غضب المسلمين تجاه هذه الرسوم التى لا يرى العالم سببًا له. اختفى الحوار المفيد بين الحضارات التى تختلف قيمها ومقدساتها اختلافًا ظاهرًا ولكنها مُضطرة للعيش والتعايش. وأثَّر هذا كله على ملايين المسلمين فى المهجر ليس فى فرنسا وحدها ولكن فى كل دول العالم . كما بدأت العلاقات بين البلاد الإسلامية وبقية دول العالم فى التأزم فى وقتٍ تجد الإنسانية نفسها فى أشد الحاجة لتعاونٍ دولى لمواجهة الأخطار المخيفة للوباء والحروب ومشاكل البيئة والطعام والماء والطاقة. فى رأيى أن أحداث باريس ولندن وبرلين وغيرها فى السنوات العشر الأخيرة سوف تؤدى - إن استمرت- إلى مواجهة شاملة بين الحكومات الأوربية والجاليات العربية والإسلامية يكون الخاسر فيها هذه الجاليات. وفى الوقت نفسه فسوف تؤدى هذه الأحداث إلى تصاعدٍ قوى اليمين الشعبوية التى تكره بطبيعتها الأجانب، وتسعى لطردهم من البلاد، ومعاقبة الدول التى تؤويهم. هذه أمور فى غاية الخطورة، فعلى مدى التاريخ البشرى خسر العالم خسارة هائلة فى كل مرة تصاعدت فيها قوى اليمين المُتطرف، وكانت الدول والمجتمعات النامية ومواطنوها هم أكثر الخاسرين. د. أحمد أبو العطا .. (وللحديث بقية) نقلا عن: صحيفة الأهرام