د. نيفين مسعد فى مقال الأسبوع الماضى تناولتُ التقارب المصرى -العراقى -الأردنى ودعوت إلى عدم تحميله أكثر مما يحتمل ولا اعتباره قاطرة تجر النظام العربي، حيث تعد سيولة التحالفات بين الدول العربية من السمات التى ميزت النظام العربى على مدار تاريخه، ويمكن فى هذا السياق الاستشهاد بالعديد من النماذج من قبيل تفكك جبهة الصمود والتصدى التى تكونت بعد توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل ، وتفكك إعلان دمشق الذى أبرم فى أعقاب تحرير الكويت، وتفكك التجمعات الفرعية كما حدث مع مجلس التعاون العربى أو جمودها التام كما هو الحال مع اتحاد المغرب العربى، هذا فضلاً عن تعثر كل التجارب الوحدوية العربية. ومع تزايد اختراق النظام العربى بواسطة دول الجوار بعدالاحتلال الأمريكى للعراق عام 2003 وثورات الربيع العربية، لم تتغير هذه السمة بل إنها تأكدت، وأص-بحت دول الجوار وبالذات إيران ثم تركيا عنصرًا تكوينيا من عناصر بعض هذه التحالفات. ترتب على العدوان الإسرائيلى على لبنان فى صيف 2006 ظهور ما يعرف باسم محور الممانعة الذى تكون أساساً من إيران مع كلٍ من سورياوقطر وحزب الله وحركات المقاومة الفلسطينية الإسلامية، وعكست تركيبة هذا التحالف زيادة النفوذ الإقليمى لإيران من جهة وبروز دور ما يعرف باسم الفاعلين المسلحين من غير الدول من جهة أخري. ومع أن تغلغل إيران فى مفاصل الدولة العراقية كان على أشده إلا أنه من الصعب القول إن العراق كان جزءاً من هذا المحور لسببين رئيسيين، أحدهما أن النفوذ الأمريكى داخل العراق كان عنصراً مهماً من عناصر تحقيق التوازن مع النفوذ الإيراني، والثانى انكفاء العراق على مشكلاته الداخلية بعد التغير الجذرى فى نظامه السياسى واختلال توازنات القوة السياسية فيه ، يضاف إلى ذلك أن الفترة من 2004-2006 شهدت احتدام الصراع الطائفى السني/الشيعى فى العراق، وكذلك تصاعد نفوذ تنظيم القاعدة. وفى مواجهة هذا المحور الذى وقفت إيران على رأسه كان هناك ما أُطلِق عليه محور الاعتدال والذى تكون من مصر والسعودية والإمارات والأردن واصطفت أطرافه ضد سياسات التمدد الإيرانى فى المنطقة ومايرتبط بها من تدخل فى الشئون الداخلية للدول العربية. وعلى الرغم من أن الكويت تعد قريبة جدا من أطراف محور الاعتدال فإنها لا تتماهى معه بالضرورة، وذلك لأسباب تتعلق بطبيعة سياستها الخارجية ، وهذه السياسة هى التى رشحتها فيما بعد لتلعب دور الوساطة فى الأزمات العربية مثلها فى ذلك مثل سلطنة عمان وإن امتدت وساطة هذه الأخيرة إلى الأزمات بين العرب وإيران وبين إيران والولايات المتحدةالأمريكية. حتى عام 2011 لم يتبلور دور لتركيا فى سياسة التحالفات هذه مع أنها كانت قد تخلت عن المبدأ الذى حكم سياستها لفترة طويلة تجاه مشكلات الشرق الأوسط، وهو مبدأ عدم التدخل فى تلك المشكلات مالم تمثل تهديداً لها. لكن عام 2011 أتاح أمام تركيا فرصة ذهبية للانغماس فى شئون المنطقة، سواء بسبب حالة عدم الاستقرار التى تطورت إلى صراعات مسلحة فى دول كسوريا وليبيا، أو بسبب صعود دور التيارات الإسلامية وبالذات جماعة الإخوان المسلمين التى تشترك فى التوجه الأيديولوجى مع حزب العدالة والتنمية الحاكم فى تركيا. وساعد على اغتنام هذه الفرصة أن رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا ثم رئيس جمهوريتها فيما بعد له مشروع للتوسع الإقليمى قائم على إحياء فكرة الخلافة العثمانية، أو ما أُطلق عليه العثمانية الجديدة. وفيما يخص تماسك محورّى الممانعة والاعتدال، فإنه على حين حافظ محور الاعتدال على درجة عالية من التماسك رغم ما نراه من تصادم مصالح أطرافه أحياناً كما فى الساحة اليمنية مثلاً، فإن دخول تركيا على خط التحالفات أدى إلى تقسيم محور الممانعة إلى شقين أساسيين:الشق الأول بواجهة شيعية وتتزعمه إيران، ويضم الأطراف التى سبقت الإشارة إليها وإن ابتعدت عنه قطر بسبب اختلافها مع إيران فى سوريا، كما يضم الحوثيين فى اليمن وهيئة الحشد الشعبى فى العراق. أما الشق الثانى فواجهته سنية وتتزعمه تركيا، ويضم قطر التى وصلت علاقتها بتركيا إلى مستوى الشراكة الاستراتيچية على خلفية تطابق توجههما الأيديولوچى وتقارب مواقفهما الإقليمية، كما يضم المحور الصومال وحكومة غرب ليبيا والعديد من الميليشيات والتنظيمات الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. من الاستعراض السابق نخلص إلى أن العرب أضاعوا فرصاً عديدة لبناء تحالفات مستقرة عندما كان هناك اتفاق بينهم على حدٍ أدنى من مبادئ الأمن القومى العربي، وكانت هناك قدرة على التمييز بين التناقض الرئيسى مع إسرائيل والتناقضات الفرعية فيما بينهم، الآن اختلف الوضع كثيرا واتسعت الفجوة فيما بين الدول العربية بينما ضاقت الفجوة بينهم وبين إسرائيل، هذا من جانب. ومن جانب آخر فإن تزايد اختراق دول الجوار للمنطقة أدى لتعقيد فرص استقرار التحالفات لأسباب مختلفة منها مثلاً صعوبة ضبط سلوك الفاعلين المسلحين من غير الدول والمدعومين من الجوار الجغرافي، ومنها توظيف دول الجوار تحالفاتها العربية للضغط على القوى الكبرى كالولايات المتحدة وروسيا فى ملفات أخرى . لكل ما سبق من أسباب واستفادةً من قراءة التاريخ وتجاربه أقول لنترك التقارب الثلاثى بين مصر والعراق والأردن ينضج على مهل، ولا ننشغل حالياً بمن ينضم إليه من الدول العربية ومن لا ينضم، لأنه فى اللحظة التى سيتبلور فيها هذا التقارب ويكون له إطاره المؤسسى ويحقق إنجازاً، خصوصا على المستوى الاقتصادى فإن دولا كثيرة سوف تجد المبرر للانضمام إليه. * نقلًا عن صحيفة الأهرام